فمنطوق هذه الآية دون تقدير المحذوف: أنه جاء بالحق الآن فقط، وعليه يكون مفهومها: الآن فقط جئت بالحق وما جئت به قبل ذلك كان باطلا، ولازم ذلك تكذيب ما جاء به موسى صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وهذا كفر بلا شك، وأما إذا قدر المحذوف فأصبح سياق الكلام: الآن جئت بالحق الواضح، لم يكن مفهوم هذا الكلام كفرا، لأنه يعني أن ما جاء به قبل ذلك كان حقا ولكنه كان مبهما غير واضح، وأما الآن فالحق واضح لا إبهام فيه، وعليه يكون القوم مصدقين ابتداء وانتهاء ولكن تصديقهم انتهاء تصديق بآية واضحة لا لبس فيها ولا إشكال، والله أعلم.
فأفادنا، ابن هشام، رحمه الله، في شرحه للشذور، وما أكثر فوائده في هذا الشرح الممتع، أفادنا فائدة أصولية جليلة عن المنطوق والمفهوم، فمنطوق الكلام: هو ما يفيد بنفس صيغته، كقولك: إن أتى زيد أكرمتك، فهو يفيد بمنطوقه: تعليق إكرامك على شرط إتيان زيد، فإن تحقق الشرط وأتى زيد حصل المشروط وأكرمتك. فحصلت الفائدة هنا في محل النطق.
ولكنه يفيد من جهة مفهومه: أي المعنى المستفاد منه لا في محل النطق به، ولكن في محل السكوت: أنه إن لم يأت امتنع المشروط ولم أكرمك، وهذا ما يعرف عند الأصوليين بـ "مفهوم المخالفة"، لأن حكم المسكوت عنه مخالف لحكم المنطوق به.
والمفهوم عموما ينقسم إلى:
مفهوم موافقة: وهو دلالة الكلام في محل السكوت على نفس حكم المنطوق به، كما في قوله تعالى: (ولا تأكلوها بدارا)، أي أموال الأيتام، فهذه الآية أفادت بمنطوقها: النهي عن إتلاف أموال اليتامى بالأكل، وأفادت بمفهوم الموافقة: نفس الحكم في صور الإتلاف الأخرى المسكوت عنها كـ: الإتلاف بالحرق أو اللبس أو .............. الخ.
ومفهوم مخالفة: وقد سبقت الإشارة إليه في المثال السابق، وفيه يثبت عكس حكم المنطوق به للمسكوت عنه، كما تقدم، ومن ذلك:
قوله تعالى: (ولا تقربوهن حتى يطهرن)، فالآية أفادت بمنطوقها: النهي عن قربان النساء، أي جماعهن، حتى يطهرن من دم الحيض، على خلاف هل يحصل الطهر بانقطاع الدم، كما ذهب إلى ذلك الأحناف والظاهرية، رحمهم الله، أو بانقطاع الدم والغسل، كما ذهب إلى ذلك الجمهور وهو الراجح، والله أعلم.
وأفادت بمفهومها المخالف، وهو هنا مستفاد من دلالة الغاية المستفادة من لفظ "حتى"، أفادت إثبات عكس حكم النهي عن قربان النساء، وهو الإباحة، إذا حصل ما بعد الغاية، أي حصل الطهر، على التفصيل السابق، فيكون حكم ما قبل الغاية النهي، المنطوق به، مخالفا لحكم ما بعد الغاية الإباحة المسكوت عنها.
وهذا المفهوم معتبر عند جمهور الأصوليين، خلاف الأحناف، رحمهم الله، على تفصيل لا يتسع المجال لذكره، إلا إذا:
خرج الكلام مخرج الغالب، كما في:
قوله تعالى: (وربائبكم اللاتي في حجوركم)، فهذا قيد أغلبي غير معتبر، لأن الغالب على الربائب أنهن يربين في حجور أزواج أمهاتهن، وعليه تحرم الربيبة على زوج أمها بمجرد دخوله بالأم، لا بمجرد العقد، فيشترط لتحريمها عليه تحريما مؤبدا أن يدخل بأمها، ويستوي في الحكم الربيبة المقيمة معه أو غير المقيمة، ويقال بأن المفهوم هنا لا عبرة به لأنه خرج مخرج غالب أحوال الربيبة، والله أعلم.
وكما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة)، فالكلام يدل بمنطوقه على تحريم أكل الربا أضعافا مضاعفة، وقد يتوهم البعض أنه يفيد بمفهومه عدم تحريم أكل الربا إذا كان ضعفا أو ضعفين أو أضعافا قليلة، ولكن القيد هنا، أيضا، قيد أغلبي، والكلام خرج مخرج غالب أحوال أهل الجاهلية، لأنهم كانوا يأكلونه أضعافا مضاعفة، فلا يصح التقييد هنا، وعليه وضع الأصوليون قاعدة: إذا خرج الكلام مخرج الغالب فلا مفهوم له، أي لا مفهوم مخالفة له.
¥