وأيضا لا اعتبار لمفهوم المخالفة إذا كان المذكور لبيان الواقع، كما في قوله تعالى: (ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له)، فالآية دالة بمنطوقها على تحريم عبادة إله آخر مع الله لا برهان له، ولا تفيد بمفهومها: جواز ذلك إذا كان لهذا الإله برهان، وكل معبود سوى الله، عز وجل، معبود باطل، لا برهان له، وإنما ذكر هذا القيد لبيان واقع كل ما يعبد من دون الله، وهذا ما يعرف بـ "الصفة الكاشفة"، لأنها تكشف عن حال الموصوف، وهو هنا الآلهة الباطلة.
وكذا في قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب علي متعمدا ليضلبه الناس)، فقد استدل الكرامية، وهم إحدى الفرق التي خالفت أهل السنة في أصول الدين، استدلوا بمفهوم هذا الحديث على جواز الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لهداية الناس، بزعمهم، لأن الحديث بهذه الرواية يدل بمنطوقه على تحريم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم لإضلال الناس، فدل بمفهومه المخالف على جواز الكذب عليه لهداية الناس، ولذا جوزوا الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحاديث الترغيب والترهيب، وإلى هذا أشار الحافظ العراقي، رحمه الله، في ألفيته بقوله:
وجوز الوضع على الترغيب ******* قوم ابن كرام وفي الترهيب
وقوم "ابن كرام" المذكورون في البيت هم الكرامية، لأنهم نسبوا لمحمد بن كرام السجستاني رأسهم وأول من أظهر مقالتهم المخالفة لأهل السنة، وهذا الاستدلال بطبيعة الحال من أفسد ما يكون، والرد عليه بأحد أمرين:
إما أن يقال بأن جملة: (ليضل الناس به)، قيد كاشف للصفة، كما سبق في آية: (ومن يدع مع الله ..... )، فلا اعتبار لمفهومه.
وإما أن يقال بأن اللام في: (ليضل)، ليست لام التعليل، وإنما هي لام الصيرورة، فيكون معنى الحديث: من كذب علي متعمدا لتصير عاقبة أمر من اتبعه الضلال، وعليه يسقط استدلالهم بالمفهوم من أساسه، لأن استدلالهم بالمفهوم، وإن كان فاسدا، لا يستقيم إلا مع القول بأن اللام هي لام التعليل، ونظير ذلك قوله تعالى: (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا)، أي ليصير لهم عدوا، فلا يتصور أن تكون اللام هنا لام التعليل فيكون معنى الآية: فالتقطه آل فرعون لأجل أن يكون عدوا لهم، فيكونوا قد استجلبوا هلاكهم بأيديهم متعمدين، والله أعلم.
وبهذا يستقيم القول بأنه لابد من تقدير نعت محذوف في قوله تعالى: (وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا)، فيكون تقدير الكلام: يأخذ كل سفينة صالحة غصبا، بل لابد مع تقدير هذا المحذوف من إعمال مفهومه المخالف، فيكون منطوق الكلام: يأخذ كل سفينة صالحة، ومفهومه: لا يأخذ كل سفينة غير صالحة، وإلا لما كان للخضر، عليه السلام، منة على القوم بخرق السفينة، لأنها، على القول بإهمال المفهوم، مأخوذة مأخوذة، سواء كانت صالحة أو غير صالحة، فكأن الخضر عليه السلام، أطلق العام، وهو لفظ "سفينة"، وأراد به الخاص "سفينة صالحة"، وهذا من صور المجاز عند من يقول به في القرآن الكريم، لأن دلالة العام المراد به الخاص، دلالة مجازية بالإجماع، وأما من يقول بعدم المجاز في القرآن، فإنه يقول بأن السياق قد دل على المعنى، لأنه لا يتصور أن يقدم الخضر عليه السلام على هذا التصرف إن لم يترجح عنده جدواه، والله أعلم.
ومفهوم الموافقة، حجة عند الجمهور، خلاف الظاهرية، رحمهم الله، وأما مفهوم المخالفة، فهو أيضا، كما تقدم، حجة عند الجمهور، ولكن الخلاف فيه أشد، لأن الظاهرية والأحناف، رحمهم الله، نفوا حجيته، والله أعلم.
بتصرف من "مباحث في علوم القرآن"، للشيخ مناع القطان، رحمه الله، ص233.
ومن ذلك أيضا:
قوله تعالى: (وامرأته حمالة الحطب)، بنصب "حمالة"، فقد يتبادر، للوهلة الأولى، أن الأنسب للسياق رفع "حمالة" على أنه خبر لـ "امرأته"، أو نعت والخبر ما يليه "في جيدها حبل من مسد"، ولكي يستقيم السياق لا بد من تقدير محذوف مناسب، فيكون السياق بعد تقديره: وامرأته أخص بالذم حمالة الحطب، في جيدها حبل من مسد، فكأن "حمالة" هنا منصوب بالاختصاص بالذم، والخبر: في جيدها حبل من مسد، والاختصاص إما أن يكون بالمدح كما في قوله تعالى: (لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الأخر)، بنصب (المقيمين الصلاة)، على الاختصاص بالمدح، وسبقت الإشارة إلى ذلك، أو بالذم كما في هذه الآية.
وشواهد ذلك من كلام العرب كثيرة فمنها:
قوله صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة)، بنصب "معاشر"، فتقدير الكلام: نحن، أخص بالذكر معاشر الأنبياء ...................
وقول الشاعر:
نحن بني ضبة أصحاب الجمل ******* ننعي ابن عفان بأطراف الأسل
بنصب "بني" على الاختصاص، فلم يقل: نحن بنو ضبة، فيكون تقدير الكلام: نحن، أخص بالذكر بني ضبة ..........................
وقولهن:
نحن بنات طارق ******* نمشي على النمارق
بكسر "بنات"، على الاختصاص، لأنها جمع مؤنث سالم، وهو ينصب بالكسرة، كما هو معلوم، فيكون تقدير الكلام: نحن، أخص بالذكر بنات طارق ................. ، والله أعلم.
بتصرف من "منحة الجليل"، (3/ 231_232).
وهذه الفائدة كنت قد عرضتها، على أحد مشرفي المنتدى الكرام، فصوبها لي، ولله الحمد.
¥