وابن هشام، رحمه الله، يرى صحة تقدير المحذوف بـ: "كمن ليس كذلك"، فيكون السياق: أمن هو قانت آناء الليل كمن ليس كذلك، وعليه تختزل المحذوفات المقدرة من اثنين (معادل الهمزة والخبر) إلى محذوف واحد فقط وهو (الخبر): "كمن ليس كذلك"، ولا شك أن لهذا القول رجحان من جهة أن الأصل عدم الحذف فلا يصار إليه إلا للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها فإذا استقام السياق بتقدير محذوف واحد فلا حاجة لتقدير محذوف آخر، ويكون سياق بيت أبي ذؤيب:
فما أدري هل طلابها رشد، فيستقيم المعنى دون تقدير أي محذوف، لأن "هل" لا تحتاج إلى معادل كـ "همزة الاستفهام" التي احتاجت "أم"، بل على العكس يمتنع معها المعادل.
ونظير ذلك قوله تعالى: (أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت)، أي: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت كمن ليس كذلك؟!!، فيكون الاستفهام إنكاريا، إذ كيف يسوى بين من يحصي على العباد أعمالهم، وهذا أحد مقتضيات اسم الله عز وجل: "القيوم"، فمن تمام قيوميته، عز وجل، أنه قائم على عباده يحصي عليهم أعمالهم، كيف يسوى بينه وبين من ليس كذلك فهو عاجز عن إحصاء أعماله هو فضلا عن إحصاء أعمال غيره؟!!!، لا شك أن في هذا تسوية بين متفرقين لا يرضى بها عقل سوي.
فحذف هنا أيضا الخبر: "كمن ليس كذلك".
وبقية مقتضيات اسم الله عز وجل "القيوم":
قيامه، عز وجل، مستغنيا عن عباده، فلم يخلقهم ليطعموه من جوع أو ليستكثر بهم من قلة.
وقيامه، عز وجل، برزق عباده ورعايتهم، فلا غنى لهم عن فضله، وهو الغني عمن سواه.
ومن ذلك قوله تعالى: (أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة)، أي: أفمن يتقي بوجهه سوء العذاب يوم القيامة كمن ينعم في الجنة؟!!!، وما قيل في الآية السابقة يقال في هذه الآية، حيث حذف الخبر: "كمن ينعم في الجنة" لدلالة السياق عليه، والاستفهام، كسابقه في الآية السابقة، استفهام إنكاري، لأن التسوية بين المؤمن والكافر تسوية بين مفترقين لا يقرها العقل السوي.
ومنه أيضا: قوله تعالى: (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا): أي: أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا كمن هداه الله.
والملاحظ في الأمثلة السابقة أن المحذوف هو الشق الثاني من الجملة وهو الخبر، وقد ورد في التنزيل: حذف الشق الأول، وهو المبتدأ، كما في:
قوله تعالى: (كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما)، أي: أمن هو خالد في الجنة يسقى من هذه الأنهار كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما، فحذف المبتدأ " أمن هو خالد في الجنة يسقى من هذه الأنهار "، لدلالة السياق عليه.
وورد التصريح بكليهما كما في:
قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله)، فذكر المبتدأ: "أفمن كان على بينة من ربه"، وأتبعه بالخبر: "كمن زين له سوء عمله".
وقوله تعالى: (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)، فذكر المبتدأ "أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس"، وأتبعه بالخبر: "كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها".
فالحاصل أن القسمة ثلاثية:
إما أن يذكر كلا الشقين: المبتدأ والخبر.
وإما أن يحذف الخبر لدلالة المبتدأ عليه، وهو الأكثر.
وإما أن يحذف المبتدأ لدلالة الخبر عليه، وهو الأقل.
والضابط العام لهذه الآيات أن فيها نفيا للتساوي بين مفترقين، وعليه يكون المحذوف دوما عكس المذكور في السياق، فإن كان المذكور ممدوحا فالمحذوف مذموم، والعكس بالعكس، والله أعلم.
بتصرف من مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام، رحمه الله، بتحقيق العلامة محمد محيي الدين عبد الحميد، رحمه الله، (1/ 35_36).
ومن ذلك أيضا:
قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض)، فالجمهور، وعلى رأسهم سيبويه، رحمه الله، على أنه لا محذوف في الآية، لأن همزة الاستفهام عندهم لها الصدارة دوما، فقدمت على العاطف (الفاء في "فلم")، تنبيها على صدارتها، خلاف بقية أدوات الاستفهام التي يتقدم عليها العاطف، كقوله تعالى: (وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم)، حيث قدم العاطف "الواو"، وتلاه اسم الاستفهام "كيف".
¥