أن بعض النحاة قد أعرب "مثل": على أنها نعت لـ "حق"، وأشكل على ذلك أن "حق" نكرة، و "مثل" قد أضيفت إلى "ما" المصدرية فلزم من ذلك اكتسابها التعريف لأن المضاف إلى معرفة: معرفة، والمعرفة لا تنعت بها النكرة، والرد على ذلك أنها، لم تكتسب التعريف من إضافتها لـ "ما"، لأنها موغلة في الإبهام، فلم تستفد تعريفا من إضافتها، وإنما استفادت بناءا من إضافتها لـ "ما"، ولذا حركت بالفتح، كعلامة بناء، واستعملت لنعت مرفوع، "حق"، فتكون مبنية على الفتح في محل رفع نعت لـ "حق".
واكتساب البناء من الإضافة لمبني، أمر سائغ في لغة العرب، وعليه خرجت رواية فتح "حين" في قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا ******* فقلت ألما تصح والشيب وازع
فاكتسبت "حين" البناء على الفتح لأنها أضيفت إلى جملة فعلية فعلها ماض مبني على الفتح المقدر لاتصاله بتاء الفاعل.
فكأن أصحاب الرأي الذي نقله أبو حيان، رحمه الله، يريدون نفي اكتسابها البناء بإضافتها لمبني، ويريدون جعل هذا الفتح فتح إعراب لا بناء، لذا قدروا محذوفا منصوبا لينعت بـ "مثل" المفتوحة.
وبطبيعة الحال من أول "أنكم تنطقون" بمفرد، وهو المصدر "نطقكم"، لأن همزة إن مفتوحة، تكون "ما" عنده زائدة، وقد نص الخليل، رحمه الله، على زيادتها، كما ذكر ذلك أبو حيان، رحمه الله، ويكون تقدير الكلام: إنه لحق مثل نطقكم، والله أعلم.
ومن ذلك أيضا:
قوله تعالى: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)
يقول الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، رحمه الله، في "تنقيح الأزهرية"، ص122، في معرض كلامه على أداة العطف "ثم":
وهو للترتيب والتراخي، نحو: جاء زيد ثم عمرو، إذا كان مجيء عمرو بعد مجيء زيد بمهلة.
واعترض المعنى الأول بقوله تعالى: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)، إذ قال النحاة بأن: ثم تدل على أن المعطوف بها، وهو الواقع بعدها يقع بعد المعطوف عليه، وهو المذكور قبلها، فاعترض عليهم، كما تقدم، بالآية الكريمة لأن قوله تعالى: (ثم قلنا للملائكة)، معطوف على قوله تعالى: (ثم صورناكم)، والظاهر أن المراد من صورناكم، تصوير كل واحد في بطن أمه، ولا شك أن الله تعالى قد قال للملائكة اسجدوا لآدم قبل تصوير كل واحد منا في بطن أمه بزمن طويل، كما هو معلوم لنا من إخباره، عز وجل، عن بدء خلق أبينا آدم، وأجاب الشيخ الأزهري، رحمه الله، عن هذا الاعتراض بأنه ليس المراد من قوله تعالى: (صورناكم)، تصوير كل واحد منا في بطن أمه، بل المراد تصوير أبينا آدم، عليه الصلاة والسلام، فيكون تقدير الكلام: ولقد خلقنا أباكم ثم صورنا أباكم، ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم، ............. ، ومتى كان الكلام على هذا التقدير صح قول النحاة إن "ثم" للترتيب.
بتصرف من تنقيح الأزهرية، ص122.
ويؤيد هذا قول الزمخشري غفر الله له:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَـ?كُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَـ?كُمْ} يعني خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصوّر، ثم صورناه بعد ذلك. ألا ترى إلى قوله: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَـ?ئِكَةِ ?سْجُدُواْ لأَدَمَ} الآية {مّنَ ?لسَّـ?جِدِينَ} ممن سجد لآدم.
وقول أبو حيان رحمه الله:
وقيل التقدير ولقد خلقنا أباكم ثم صوّرنا أباكم ثم قلنا فثم على هذا للترتيب الزماني.
وينقل أبو حيان، رحمه الله، عن أبي يعلى في المعتمد قوله بأن:
الخطاب لبني آدم إلا أنه على حذف مضاف، فيكون التقدير ولقد خلقنا أرواحكم ثم صوّرنا أجسامكم.
ولأبي حيان، رحمه الله، تخريجات أخرى، إذ يقول:
قد تكون {ثم} في {ثم قلنا} للترتيب في الإخبار لا في الزمان وهذا أسهل محمل في الآية. اهـ
فلا يلزم منها الترتيب الزماني، بل الترتيب الإخباري، كأن تقول جاء محمد ثم أحمد، وإن كان أحمد هو الآتي أولا.
ويقول أيضا:
ومنهم من جعل {ثم} للترتيب في الزمان واختلفوا في المخاطب، فقيل المراد به آدم وهو من إطلاق الجمع على الواحد، وقيل المراد به بنوه فعلى القول الأول يكون الخطاب في الجملتين لآدم لأنّ العرب تخاطب العظيم الواحد بخطاب الجمع. اهـ
فيكون هذا من باب إطلاق العام وإرادة الخاص.
كقوله تعالى: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم)، فالناس الأولى: عام أريد به فرد واحد من أفراده، وهو نعيم بن مسعود، رضي الله عنه، أو أعرابي من خزاعة، والناس الثانية: عام أريد به، أيضا، فرد واحد من أفراده، وهو أبو سفيان، رضي الله عنه، فدلالته مجازية بالاتفاق، لأنه لم يرد به ابتداء، العموم لا من جهة المعنى المقصود أو حتى التناول اللفظي، بدليل أن من الناس من لم يجمع للمسلمين، من بقية أهل الأرض، والله أعلم.
ومن ذلك أيضا:
قوله تعالى: (من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم).
فهمزة إن، تفتح بعد فاء الجزاء، جوازا، فإن كسرت همزة إن: كان ما بعدها مؤولا بجملة تامة، وعليه لا حاجة بنا إلى تقدير محذوف.
وأما إذا فتحنا همزة إن، كما في قراءة حفص، فإن ما بعدها يؤول بمفرد، وعليه لابد من تقدير خبر متمم للجملة، بجعل المفرد المؤول في محل رفع مبتدأ، فيكون تقدير الكلام: فمغفرة الله ورحمته جزاء من عمل سوءا بجهالة ثم تاب، فيكون "جزاء": هو الخبر المقدر.
أو على العكس، يؤول ما بعد "أن" في محل رفع خبر، ويكون المقدر هو المبتدأ، فيكون تقدير الكلام: جزاء من عمل سوءا بجهالة ثم تاب مغفرة الله ورضوانه، ويكون: "جزاء" هو المبتدأ المقدر، و "مغفرة الله": الخبر المؤول، والله أعلم.
مستفاد من شرح الشيخ الدكتور عبد الغني عبد الجليل، حفظه الله، لشذور ابن هشام، رحمه الله.
¥