ومن قال بأنها "ما" الاستفهامية، و "ذا" الموصولة، بمعنى: ما الذي ينفقون، أعربها خبرا، لـ "ما"، والخبر مرفوع، لذا استحسن مجيء الجواب، أيضا، مرفوعا، تبعا لرفع "ذا" الموصولة.
والعفو: إما أن يطلق على الكثرة أو القلة، فهو من المشتركات اللفظية، التي تدل على المعنى وضده في نفس الوقت.
يقول ابن الأنباري رحمه الله: يقال عفا الشيء يعفو عفوا إذا كثر وقد عفوته أعفوه وأعفيته أعفيه إعفاء إذا كثرته وعفا القوم إذا كثروا وعفوا إذا قلوا، (وهو من الأضداد)، والعافي، قال تعالى: (وليعفوا وليصفحوا)، قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: أما اللغة في اعفوا فمحتملة للشيء وضده.
ويضيف أبو حيان، رحمه الله، معنى ثالث وهو: الصفو، يقال: أتاك عفواً، أي: صفواً بلا كدر، قال الشاعر:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ******* ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
فضلا عن كون من جعلها "ما" الاستفهامية و "ذا" الموصولة، يلزمه أن يقدر عائد صلة يربط بين الصلة والاسم الموصول، فيكون تقدير الكلام: يسألونك ما الذي ينفقونه، كما سبق في قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيدا)، فتقدير الكلام: ذرني ومن خلقته وحيدا , ومنه قول عروة بن حزام:
وما هو إلا أن أراها فجاءة ******* فأبهت حتى ما أكاد أجيب
وأصرف عن وجهي الذي كنت أرتئي ******* وأنسى الذي أعددت حين أجيب
فتقدير الكلام: وأصرف عن وجهي الذي كنت أرتئيه، فالهاء المقدرة في "أرتئيه" هي عائد الصلة.
و: وأنسى الذي أعددته حين أجيب، فالهاء في "أعددته" كالهاء في "أرتئيه".
انظر "منحة الجليل"، (1/ 142).
ومنه قوله تعالى: (وعندهم قاصرات الطرف عين)، وقوله تعالى: (وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ):
فتقدير الكلام: وعندهم حور قاصرات الطرف عين، فحذف المنعوت وأقام النعت محله لأن عامل المنعوت المحذوف صالح لمباشرة النعت، فعامل الابتداء في المبتدأ المحذوف: "حور" يصلح لمباشرة النعت "قاصرات"، الذي حل محل مبتدأه بعد حذفه، والله أعلم.
ومنه قول سحيم الرياحي:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ******* متى أضع العمامة تعرفوني
فتقدير الكلام:
أنا ابن رجل جلا الأمور، فحذف "رجل" المنعوت، وأقام نعته، جملة "جلا الأمور"، محله فجرت بإضافة "ابن" لها، والله أعلم.
بتصرف من "النحو المنهجي، التراكيب الوسيطة (الجزئية) "، للدكتور محمد عبد العزيز عبد الدايم، ص80_82.
ويرد على ذلك قول ابن هشام، رحمه الله، معلقا على بيت سابق لبيت "سحيم":
فإن قيل: فيه حذف الموصوف مع أن الصفة غير مفردة، فهي جملة "جلا الأمور"، وهو في مثل هذا ممتنع، قلنا: في النثر وهذا شعر فيجوز فيه، كقوله:
أنا ابن جلا .................
أي: أنا ابن رجل جلا الأمور.
بتصرف من مغني اللبيب، (1/ 179).
ومنه قوله تعالى: (ومن الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه):
فتقدير الكلام، والله أعلم بمراده: ومن الذين هادوا فريق يحرفون الكلم، فحذف الموصوف "فريق"، مع أن الصفة، جملة "يحرفون الكلم"، غير مفردة، وربما صلح هذا كإيراد يرد على كلام ابن هشام، رحمه الله، المتقدم، إذ قصر هذا الحذف على الضرورة في الشعر دون الاختيار في النثر، وهو في هذه الآية الكريمة، قد ورد في الاختيار، والله أعلم.
وما سوغ هذا الحذف هو: أن المنعوت المحذوف بعض المجرور بـ "من"، فـ "فريق" المقدر، جزء من "الذين هادوا" المجرور بـ "من".
وهذا أحد تخريجات الآية عند الزمخشري في كشافه إذ يقول:
ويجوز أن يكون كلاما مبتدأ على أن " يحرفون " صفة مبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون. كقوله:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ******* أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
أي فمنهما تارة أموت فيها.
فـ "تارة" المقدرة، جزء من "هما" المتصلة بـ "من" والمجرورة بها، فهي إحدى التارتين، والنعت جملة: "أموت"، وهي، أيضا، غير مفردة، ومع ذلك ساغ حذف المنعوت بها.
ويوافق أبو حيان، رحمه الله، فيقول:
¥