والتقدير: من الذين هادوا قوم يحرّفون الكلم، وهذا مذهب سيبويه، أي حذف الموصوف، وأبي عليّ، أي الفارسي، وحذف الموصوف بعد من جائز وإن كانت الصفة فعلاً كقولهم: منا ظعن، ومنا أقام أي: منا نفر ظعن، ومنا نفر أقام. اهـ، وهذا رد صريح على قول ابن هشام، رحمه الله، بامتناع حذف الموصوف إذا كانت الصفة جملة إلا في الضرورة الشعرية.
ومعنى الجملة الأخيرة: منا فريق ظعن، أي ارتحل، ومنا فريق أقام، فحذف الموصوف "فريق" في كلا الشقين.
ومن ذلك أيضا قول العرب: ما منهما مات حتى رأيته في حال كذا وكذا
أي: ما منهما أحد مات حتى رأيته ...............
ونظيره قوله تعالى: (وما منا إلا له مقام معلوم)، فتقدير الكلام: وما منا أحد إلا له مقام معلوم، فـ "أحد"، المقدر، جزء من "نا" المتصلة بـ "من" والمجرورة بها.
وإلى ذلك أشار الزمخشري في "كشافه" واستشهد بالبيت الشهير:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا ...............
أي: أنا ابن رجل جلا الأمور ........ ، وقد تقدم ذكره.
ولكن أبو حيان، رحمه الله، يستدرك بقوله:
ليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، لأن أحداً المحذوف مبتدأ. وإلا له مقام معلوم خبره، ولأنه لا ينعقد كلام من قوله: وما منا أحد، فقوله: {إلا له مقام معلوم} هو محط الفائدة. اهـ
وهو استدراك وجيه بلا شك، ويكون مسوغ الابتداء بالنكرة المحذوفة "أحد" تقدم النفي "ما"، فيكون تقدير الكلام: ما أحد منا إلا له مقام معلوم، وتقدم النفي هو أحد مسوغات الابتداء بالنكرة، كما هو معلوم، وإليه أشار ابن مالك، رحمه الله، في ألفيته، بقوله:
ولا يجوز الابتدا بالنكرة ******* ما لم تفد كـ: عند زيد نمرة
وهل فتى فيكم؟ فما خل لنا ******* ورجل من الكرام عندنا
والشاهد: فما خل لنا، فتقدم النفي بـ "ما" سوغ الابتداء بالنكرة: "خل".
والسبب في جواز ذلك، كما يقول الشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، رحمه الله، هو: أن تقدم حرف النفي على النكرة يجعلها عامة، وعموم النكرة مسوغ للابتداء بها، والله أعلم.
انظر "منحة الجليل بتحقيق شرح ابن عقيل"، (1/ 178_180).
وكذا قوله تعالى: (وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك)، فتقدير الكلام: وأنا منا الصالحون ومنا فريق دون ذلك، فـ "فريق"، المقدر، جزء من "نا" المتصلة بـ "من" والمجرورة بها، وقد يورد على ابن هشام، رحمه الله، هنا أيضا، بمجيء النعت هنا شبه جملة، وهي الظرف "دون"، ومع ذلك ساغ حذف المنعوت، والله أعلم.
ويؤكد الزمخشري على ذلك بقوله:
{مِنَّا الصالحون} منا الأبرار المتقون {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} ومنا قوم دون ذلك، فحذف الموصوف.
وقوله تعالى: (ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة)، فتقدير الكلام: ومن الذين أشركوا فريق أو أناس يود أحدهم ............... ، وشرط كون المنعوت المحذوف بعض المجرور بـ "من" وهو هنا: (الذين أشركوا)، متحقق.
يقول الزمخشري:
وقيل: " ومن الذين أشركوا " كلام مبتدأ أي ومنهم ناس " يود أحدهم " على حذف الموصوف كقوله: " وما منا إلا له مقام معلوم " الصافات: 164.
وهنا أيضا: النعت جملة (يود أحدهم)، ومع ذلك ساغ حذف منعوتها.
ويوافق ابن حيان، رحمه الله، الزمخشري إذ يقول:
إذ المعنى: ومنهم قوم يود أحدهم، ويود أحدهم صفة لمبتدأ محذوف، أي ومن الذين أشركوا قوم يود أحدهم، وهذا من المواضع التي يجوز حذف الموصوف فيها، كقوله تعالى: {وما منا إلا له مقام معلوم} {وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} وكقول العرب: منا ظعن ومنا أقام. اهـ، وسبقت الإشارة إلى هذه الجملة تفصيلا.
وقوله تعالى: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به)، فتقدير الكلام: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به، وشرط كون المنعوت المحذوف بعض المجرور بـ "من" وهو هنا: (أهل الكتاب)، متحقق.
يقول الزمخشري:
" ليؤمنن به " جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره: وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به. ونحوه: " وما منا إلا له مقام معلوم " الصافات: 164.
ويوافق أبو حيان رحمه الله، بقوله:
¥