وقوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُون * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًاَ)
يقول أبو حيان رحمه الله:
قرأ أهل المدينة: نافع، وأبو جعفر، وشيبة، وغيرهم، وابن عامر: الذين بغير واو، كذا هي في مصاحف المدينة والشام، فاحتمل أن يكون بدلاً من قوله: وآخرون مرجون، وأن يكون خبر ابتداء تقديره: هم الذين، وأن يكون مبتدأ. وقال الكسائي: الخبر لا تقم فيه أبداً. اهـ
فإما أن تكون "الذين" في قراءة من لم يثبت الواو، خبرا لمبتدأ محذوف تقديره: "هو"، وإما أن تكون جملة "لا تقم فيه أبدا"، على مذهب من جوز وقوع الجملة الإنشائية خبرا، كقولك: زيد لا تضربه، فـ "لا تضربه"، على مذهبهم، خبر للمبتدأ "زيد"، وقد تخرج هذه القراءة على تقدير قول محذوف، فيكون السياق: والذين اتخذوا مسجدا ضرارا .............. مقول فيه: (لا تقم فيه أبدا)، ومن ثم يقدر الخبر كـ "معذبون" أو نحوه، كما قدره المهدوي.
أو يكون تقدير هذا الخبر، قبل جملة: (لا تقم فيه أبدا)، فيكون السياق: والذين اتخذوا مسجدا ضرار ............... معذبون، ومن ثم استأنف الكلام بالنهي عن القيام فيه، وهذا التقدير أولى من سابقه الذي أدخل جملة النهي "لا تقم ....... " في حيز المبتدأ، ثم أخبر عن الجميع بالخبر المحذوف، والله أعلم.
وأما القراءة التي أثبتت الواو فعنها يقول أبو حيان رحمه الله:
وقرأ جمهور القراء: والذين بالواو وعطفاً على وآخرون أي: ومنهم الذين اتخذوا، ويجوز أن يكون مبتدأ خبره كخبره بغير الواو إذا أعرب مبتدأ. وقال الزمخشري: (فإن قلت): والذين اتخذوا ما محله من الإعراب؟ (قلت): محله النصب على الاختصاص كقوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} وقيل: هو مبتدأ وخبره محذوف، معناه فيمن وصفنا الذين اتخذوا كقوله تعالى: {والسارق والسارقة}. اهـ
فأجراه الزمخشري على تقدير محذوف يدل على الاختصاص، فيكون السياق:
و أخص بالذم الذين اتخذوا مسجدا ............. ، تنويها بعظم جرمهم فاستحقوا الاختصاص بالذم في هذا الموضع، أو يقدر للاسم الموصول "الذين"، جار ومجرور: "فيمن وصفنا"، في محل رفع خبر مقدم، كما في قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا)، أي: "وفيما فرض عليكم السارق والسارقة حكمهما كذا".
فائدة:
في هذه الآية شاهد للخلاف السابق في مسألة دخول الفاء على خبر المعرف بـ "أل" الموصولة، والذي سبقت الإشارة إليه عند الكلام على قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ)، إذ قدر سيبويه، رحمه الله، كما تقدم، الخبر: "وفيما فرض عليكم"، وامتنع عن جعل جملة "فاجلدوا" خبرا لـ "الزانية"، لأن الخبر المقرون بالفاء عنده لا بد أن يكون مخبرا عما يقبل أداة الشرط لفظاً أو تقديراً، واسم الفاعل، كـ "الزانية"، واسم المفعول لا يجوز أن تدخل عليه أداة الشرط، وكذا الحال في "والسارق والسارقة"، إلا أن الزمخشري أشار إلى وجه يصلح معه تخريج إعراب جملة "فاقطعوا أيديهما"، خبرا لـ "السارق" دون العدول عن رأي سيبويه، رحمه الله، إذ يمكن القول بأن "أل" في "الزانية"، و"السارق"، "أل الموصولة" التي تتضمن معنى الشرطية، فيكون تقدير السياق: والتي زنت والذي يزني، أو من زنت ومن زنى فاجلدوه مئة جلدة، والله أعلم.
وأما قراءة من نصبهما، أي "الزانية" و "السارق"، فيكون النصب عنده بعامل محذوف دل عليه الفعل الذي تلاهما، وهو في الآية الأولى " فَاجْلِدُوا كُلَّ " وفي الثانية "فاقطعوا أيديهما"، لأن الفعل بعدهما قد شغل عنهما بمفعوله، "كل" في الآية الأولى و "أيديهما" في الثانية، فتكون المسألة من باب الاشتغال، ويكون تقدير الكلام: اجلدوا الزانية والزاني فاجلدوهم مئة جلدة، و: اقطعوا السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما، ويكون في التكرار توكيد، كما سبقت الإشارة إلى ذلك، ولذا فضل سيبويه، قراءة النصب على قراءة العامّة
¥