وجه الدلالة: أن الزيادة في الثمن في نظير الأجل، كالزيادة في الدين نظير الأجل، فكما أن الأخيرة تعتبر ربا، كذلك الزيادة في الثمن نظير الأجل في البيع تعتبر ربا، فهي داخلة في عموم النهي عن الربا وتحريمه؛ إذ أن الحالتين كلتيهما فيهما معاوضة على الزمن، وهذا هو الربا.
ثانيا: السنة النبوية، فمن ذلك قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من باع بيعتين في بيعة فله أوكسهما أو الربا ". واستدلوا بما ثبت عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ "نهى عن بيعتين في بيعة".
وقد فسره مالك بما ذكره ـ بعد هذا البلاغ ـ ببلاغين آخرين الأول أن رجلا قال لرجل: ابتع لي هذا البعير بنقد، حتى ابتاعه منك إلى أجل، فسئل عن ذلك عبد الله بن عمر، فكرهه ونهى عنه. والثاني أن القاسم بن محمد سئل عن رجل اشترى سلعة بعشرة دنانير نقدا، أو بخمسة عشر دينارا إلى أجل، فكره ذلك ونهى عنه.
وفسره سماك بن حرب والشافعي بأن يقول بعتك بألف نقدا أو ألفين إلى سنة فخذ أيهما شئت أنت وشئت أنا.
قال الشوكاني: أما التفسير الذي ذكره أحمد عن سماك، وذكره الشافعي ففيه متمسك لمن قال: يحرم بيع الشيء بأكثر من سعر يومه لأجل النساء.
وقد أورد الشوكاني هذا التفسير في ذكره لحديث ابن مسعود قال: "نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن صفقتين في صفقة. قال سماك: هو الرجل يبيع البيع فيقول هو بنساً بكذا، وهو نقد بكذا وكذا".
وذكر السرخسي: " أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث عتاب بن أسيد ـ رضي الله عنه ـ إلى مكة، وقال: " انههم عن شرطين في البيع، وعن البيع وسلف، وعن بيع مالم يقبض، وعن ربح مالم يضمن" وبه نأخذ. وصفة الشرطين في البيع: أن يقول: بالنقد بكذا، وبالنسيئة بكذا , وذلك غير جائز ... "
وظاهر كلام السرخسي أن العلة في عدم الجواز ـ عند الأحناف ـ هي الربا؛ فإن تفسير سماك بن حرب للحديث يدل على تحريم زيادة ثمن السلعة المؤجل عن سعرها يوم بيعها؛ لأن البائع يجمع هنا صفة النقد والنسيئة في صفقة واحدة، فلا يكون له إلا أوكسهما أو الربا، لا يستحق إلا رأس ماله، فإن أخذ زيادة فقد أربى.
ثامنا: أدلة المجيزين:
قلنا إن الجمهور ذهبوا إلى جواز أن يجعل للأجل حصة من الثمن، فإن كان ثمن السلعة خمسين دينارا نقدا، فإنه يجوز بيعها بستين دينارا إلى شهرين مثلا.
سبق أن ذكرنا أدلة جواز البيع إلى أجل، وبقي لنا التدليل على جواز زيادة الثمن لأجل الأجل.
الدليل الأول: الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يعارضها نص شرعي، فالعقود جميعها مباحة إذا كانت مبنية على التراضي بين المتعاقدين، ما لم يمنع ذلك نص من نصوص الشرع، ولم يرد مانع، بل جاء النص عاما في جواز البيع، وذلك قوله تعالى:} وأحل الله البيع {.
والبيع إلى أجل مع زيادة الثمن على الحال عقد مبني على التراضي، يخدم الطرفين، فالبائع ربحه يزيد، والمشتري ينتظر زمنا ما حتى تحصل له السلعة، فيستفيد من هذه السلعة التي قبضها قبل أن يتوفر لديه ثمنها، والمعروف أن للزمن قيمة اقتصادية مهمة في المقاولات وعقود الاستصناع وغيرها من أنظمة التجارة والمعاملات.
ورد الجمهور استدلال المانعين بحديث "من باع بيعتين" بأن الحديث بهذا اللفظ فيه مقال، والمشهور فيه "النهي عن بيعتين في بيعة"، وعلى فرض صحته باللفظ الأول فإن العلماء لم يعملوا بظاهره. قال الخطابي: " لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بظاهر هذا الحديث، أو صحح البيع بأوكس الثمنين، إلا شيء يحكى عن الأوزاعي، وهو مذهب فاسد، وذلك لما يتضمنه هذه العقدة من الغرر والجهل ".
الدليل الثاني: هو نفس الدليل الذي استدل به المانعون، وهو حديث "نهى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بيعتين في بيعة "، فالممنوع ـ عند الجمهورـ هو قبول إحدى الصفقتين على الإبهام، أما لو قال: قبلت بألف نقدا أو بألفين نسيئة صح ذلك.
وهذا تفسير الإمام مالك لهذا الحديث حيث قال: في رجل ابتاع سلعة من رجل بعشرة دنانير نقدا أو بخمسة عشر دينارا إلى أجل، قد وجبت للمشتري بأحد الثمنين إنه لا ينبغي ذلك.
أقول: وتعليل مالك للمنع يبين هذه المسألة حيث قال: لأنه إن أخر العشرة كانت خمسة عشر إلى أجل، وإن نقد العشرة كانت إنما اشترى بها الخمسة عشر التي إلى أجل.
¥