في كنانة الله في أرضه كما وصفها النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام بلاد الشام، أخذ الشيخ الأخضري العلم بالسند من صدر إلى صدر وصولاً للصدر الأعظم عليه أزكى الصلاة والسلام، وتمرس على الكتابة والإلقاء، ترمقه أعين مشايخه، وتحرس منطقه أسماعهم، حتى إذا أنسوا منه المكنة والمقدرة، أفسحوا له ليتصدر في بلد غير بلده، وهذا شأن المسلمين عموماً مع علمائهم في أي بقعة إسلامية، و مكمن الغرابة من هذه الأمر تكمن أن الشيخ الأخضري استطاع حجز مكانه بين علماء أجلاء لا يشكو عددهم من قلة، ولا يعسر على جلهم فن من فنون الشريعة.
ولأن الإنسان ابن بيئته مثلما يقال، اهتم الشيخ بالدرسات العليا، رغم عدم حاجته لمثل ذلك، لكن دافعه الذاتي لخدمة دينه في مخاطبة من يرجى نفعهم للأمة، ممن سيكونون في يوم من الأيام القادة على كافة المستويات وهم طلبة الجامعة، دفعه للحصول على الشهادات العليا العصرية، فكانت رسالته في الماجستير" في السياسة الشرعية "، تلك الحلقة المفقودة في قلادة الأمة، وهو في غمار الإعداد لرسالته، يمر الشيخ فكرياً بمواطن الخلاف، أو المعترك الإسلامي الذاتي، فمثار للنقع هنا حول جزئية فقهية، وتلاحي هناك بسبب نقطة عقدية، وتستقر في ذهن الشيخ الأخضري تلك الأفكار، لتختمر فيما بعد ترياق بلسم وشفاء، فيقرر إيقاد فكره شمعات تضيء في ظلمات الخلاف، ويبدأ المسألة من مهدها، من ميدان القياس ذلكم المصدر التشريعي، الذي أراد الله به اختبار العقول المسلمة به توسيعاً على الأمة، وما برح القياس محلاً لتباين وجهات نظر الفقهاء إقراراً وتطبيقاً، وكما نعته الشيخ الأخضري نفسه في مقدمة كتابه الجامع لأحكام الورع ص7 حيث قال:" القياس وهو لازم عن الأصول، بل هو معقول المنقول "، و يتخلى الشيخ عن المسار العام لطرحه حول مقصده الإصلاح من الأعلى، وهو السياسة الشرعية، ليكون طرح الشيخ في رسالته للدكتوراه " تعارض القياس مع خبر الواحد "، ولمن له أنس بعلم الأصول يعلم أنه المحمل الأكثر وعورة والمنزع الذي لا يزال يستقبل المتناظرين، حيث أدرك الشيخ أن مقاصد الإصلاح تحتاج لمنظومة متسقة متناغمة، من مسارب الفكر، ومناهج التربية والتعليم.
وموهبة الشيخ الأخضري تميل به نحو علم المقاصد وتستبد بجهده، وهذا واضح وضوح الشمس في رابعة النهار من غزارة انتاجه في هذا الميدان، لكن عقله المقاصدي التكوين يأنف عن التقليد، و ألف على طريقة سلفه من علماء المقاصد كتباً، عندما رأى استعجام فهم عباراتهم على طلبة العلم المعاصرين ومنها كتاب " الإمام بمقاصد رب الأنام "، وبقي خياله الوثاب يحلق في أفاق المقاصد، ليخرج على الأمة بكتاب، ليس جديداً في الاسلوب فحسب، وإنما في الفكرة أيضاً، إنه كتابه الذي لا تزال دائرة الأوقاف السورية متوقفة عند نشره، فلا هي رفضته، ولا هي أجازته، والكتاب هو " مصحف المقاصد القرآنية "، لينطبق على الشيخ الأخضري قول الشاعر المعري:
وإني وإن كنت الأخير زمانه = لأت بما لم تستطعه الأوائل
فيقرر مجمع البحوث العلمية في الأزهر الشريف منح الشيخ الأخضري على مصحفه المقاصدي، جائزة غريبة عن مألوفه هي" جائزة براءة اختراع ".
ولم يهدأ بال الشيخ حفظه الله، ولم يتعب من تسلق قمم الفكر، فيتحف الأمة بكتاب من نفس العائلة، دعاه
" مناهج الفتيا والاستدلال بأخبار الآحاد"، ولو ذكرت كل جهده لما وسعت هذه العجالة.
لكن كل ما ذكر، إنما هو الصحف التي تطايرت بين أكناف الأمة، ومنها مقالات في مجلة وزارة الأوقاف السورية حول فقه الأسرة المسلمة، وأخرى في مجلة الحضارة الإسلامية التي تصدر عن جامعة وهران، وكتاب عن علم المنطق، وشرح موطأ الإمام مالك، والمفيد في الفقه المالكي، ... .
وفي زماننا هذا يحتار علماؤنا بين تعمير الصدور، وبين تحبير السطور، ومن قدر له الجمع بينهما، تلحظ تميز جانب على الأخر، أما الشيخ الأخضري فقد وهبه المولى مقدرة، حتى يحار تلاميذه، أين يولي جهداً أكثر؟، فعمله الدعوي اليومي، كما حدثني من لا أرد خبره، أن بيته مدرسة للنشء، من بعد صلاة الفجر، ومكان لحلق العلم في الضحى، أما الليل فله شأن عند الدعاة وعلمائهم، فهو كهف المعاتبات، ومرحلة المراجعات، والشيخ الأخضري هو ردء للدعاة في بلده، وفكره نور يستضيؤن به، لا يقطع ذلك التسلسل إلا محاضرة للشيخ في الجامعة، أو سفر، أو ضرورة من ضروريات الحياة.
إن ما خططته ليس كل ما حدثني به أخي الفاضل والباحث الشرعي، محمد بن مختار الطويل، ولا جل ما زودني من كتابات الشيخ وأشرطة محاضراته، فظرفي غير المستقر جعلني أعتمد السماع من أخي محمد مختار ومن محاضرات الشيخ المرئية، وبعض الكتابات، وأقر أمام المولى سبحانه أني استفدت منها الكثير.
أسأل المولى تبارك اسمه، أن ينفع بالشيخ الأخضري كل محبيه ممن حوله وممن لهم صلة مباشرة به، وأن يفتح عليه فتوح العارفين، وأن ينفعني بصلتي به الوليدة الجديدة.