تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

الأغر الأول والثاني من المجلد الثاني والعشرين، فألفيت بهما وجوه الفرق بين الجنة

والنار المنقولة عن ابن القيم - رحمه الله - بدوام الجنة وفناء النار، بخلاف ما

عليه المسلمون [1] من دوامهما معًا بدوام الله تعالى، وهو الحق الموافق للمعقول

والمنقول والحكمة، وأما الشُّبَهْ التي ذكرها ابن القيم فما هي إلا سراب، وقد عجبنا

من تحسين فضيلتكم لتلك الوجوه وأنها تفيد المارقين، وأنها الموافقة للغة دون

الاصطلاح الكلامي مما كاد يكون صريحًا في الميل لها، ومما زادني عجبًا قول

فضيلتكم في نهاية تعقيبها بأنها تنفع المارقين، ولا تضر المؤمنين بقول الجمهور

مستدلين أو مقلدين، فكيف الجمع بين متنافيين في عقيدة يجب توحيد الحق فيها [2]،

على أن ابن القيم نفسه لم يجزم بتلك الوجوه بدليل قوله عقبها: (فإن قيل: فإلى أين

انتهى قدمكم في هذه المسألة العظيمة الشأن التي هي أكبر من الدنيا بأضعاف

مضاعفة؟ قيل: إلى قوله تعالى:] إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ [(هود: 107) إلخ،

وليس في هذه الآية ما يدل على فناء النار أصلاً، وإذا جاز تأويلها مع آيات التأبيد

الكثيرة فأي مانع يمنع من تأويل قوله تعالى في الجنة:] عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [

(هود: 108) بأنه غير مقطوع ما دامت الجنة، كما قيل في العذاب، فالفرق بينهما

تحكم بدون موجب أصلاً، ودعوى أن الجنة مقتضى صفات الذات والنار مقتضى

صفة الفعل ليست بشيء؛ لأن العذاب الدائم مقتضى صفة القهر الدائمة كما سيأتي،

وقد ذكر ابن القيم تلك الوجوه أيضًا في كتابه شفاء العليل، وتوقف فيها ثم قال إثرها:

أو من كان عنده فضل علم فليحدثه. إشارة إلى عدم كفايتها في الدلالة مع الاجتهاد

في تحسينها كل التحسين بذكر أشياء حسنة في نفسها لكنها بعيدة عن المقصود، ولقد

وجدنا تلك الوجوه يناقض بعضها بعضًا، فتارة يذكر فيها استحالة دخول الكافر الجنة

كقوله تعالى:] وَلاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخِيَاطِ [(الأعراف:

40) وتارةً تجيز العفو عن الكافر بعد تطهيره بمكثه طويلاً في العذاب وبعد فناء

النار، ولا معنى للعفو والتطهير إلا إدخاله الجنة بعد ذلك، فخالف في ذلك صريح

قوله تعالى:] إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ [(النساء: 48) هذه بعض ملاحظاتي

على ذكر تلك الوجوه الفاسدة والشبه الكاسدة بمجلة المنار الأغر، ولم يكن بد من

البحث وراء الحقيقة، فنقول بالاختصار:

إن تلك الوجوه ترجع إلى خمسة أمور:

أولها: مخالفة أبدية النار للعقل، ثانيها: النقل لا يفيد الأبدية، الثالثة:

الأبدية مخالفة لكون دائرة رحمة الله أوسع من دائرة غضبه، رابعها: لا مانع من

توبة الكافر بعد طهارته بالعذاب ولو بعد حين، خامسها: مخالفة الأبدية للحكمة.

وسنبين بطلان الجميع إن شاء الله، فنقول:

أما الأول: فهو أن هؤلاء الكفار لما زاولوا الكفر أو المعاصي عنادًا أو إهمالاً

مرة بعد مرة مع الإصرار عليها حتى صارت ملكة راسخة، فهم خبثت ذواتهم خبثًا

دائمًا، وأصروا على كفرهم وعصيانهم أبد الآباد، وعزموا على أن يدوموا عليه

ولا يتركوه بحال من الأحوال، كما يرشد إلى ذلك قوله تعالى:] وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا

لِمَا نُهُوا عَنْهُ [(الأنعام: 28) ودعوى أن ذلك بالوقوف فقط، وعدم العذاب

بالفعل [3] مردود بأنه لا فرق بين رؤية العذاب واقتحامه، على أنهم لم يطلبوا الرجعة

عند رؤيته فقط بل طلبوها مرارًا بعد مكثهم في العذاب؛ لقوله تعالى زجرًا للقائل

منهم:] رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا [

(المؤمنون: 99 - 100)، وقوله تعالى:] رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا

ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ [(المؤمنون: 107 - 108)، ونحو ذلك

من الآيات الكثيرة في هذا الصدد، فكان دوام العذاب جزاءً وفاقًا على قدر الجريمة

والمعصية، ألا ترى لو أن ملكًا وضع قانونًا لرعيته بيّن فيه عقاب كل جريمة،

واقتضى نظام رعيته، وأمن كل واحد منهم على نفسه وماله وعرضه أنه جعل عقوبة

جريمة القتل مثلاً السجن الدائم مع الأشغال الشاقة، وأعلن ذلك على رعيته، ثم

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير