فإنْ جُلبتْ قصَّةُ عبد اللهِ بن أبي سرْحٍ على أنها مثالٌ، كما يمكنُ أن تجلبَ أمثلةً في عصرنا من ذلك، فحسنٌ.
وإن جُلبتْ على أنَّ الآيةَ نزلت في ذلك، فخطأٌ؛ لأنَّ ابن أبي سرْحٍ إنما تبيَّنَ أمره في يومِ مكةَ، وهذه الآيةُ نزلتْ عَقِيبَ بدرٍ) (6).
هل تجدُ مثلَ هذا التَّحريرِ في كتبِ علومِ القرآنِ؟
إنَّ تحريرَ ابن عطيَّةَ (ت: 542) يتعلَّقُ بنوعينِ من أنواعِ علومِ القرآنِ: أسبابِ النُّزول، والمكيِّ والمدنيِّ.
أمَّا معرفةُ المكيِّ والمدنيِّ، فتُبيِّنُ ضَعْفَ كونِ هذه الآيةِ نزلتْ بشأنِ ابن أبي سرحٍ، للعلَّةِ المذكورةِ. فيستفاد من معرفةُ تاريخِ النُّزولِ في الترجيحِ بين الأقوالِ كما هو ظاهرٌ، إذ بها ضَعُفَ قولٌ، فترجَّحَ الآخرُ.
وأما أسبابُ النُّزولِ، فأفاد فيها: أنَّ بعضَ ما يُحكى منها إنما هو مثالٌ في تفسيرِ الآيةِ، ولا يلزمُ منه قصرُ الآيةِ عليه، كما لا يلزمُ أن يكونَ هو السَّببُ المباشرُ لنُزول الآيةِ.
كما أفاد أنَّه يمكنُ أن تُنَزِّلَ الآياتِ على الواقِع الذي تعيشُه، ولو كانت بحكايةِ نزلتْ هذه الآيةُ في كذا؛ لأنَّ ذلك على سبيلِ التمثيلِ لما تشملُه الآيةُ، لا على أنَّه السَّببُ في نزولِ الآيةِ، واللهُ أعلمُ.
- ومُدوَّناتُ التَّفسيرِ الكبيرةِ خرجت بعلمِ التَّفسيرِ إلى مسائلَ لا علاقةَ لها به، وإنما جرَّها إليه بُرُوعُ المؤلِّفِ في فنٍّ من الفنونِ.
وقد كان لذلكَ أثرٌ في تسميةِ بعضِ كتبِ التَّفسيرِ، فالقرطبيُّ (ت: 671) سَمَّى تفسيرَه (الجامع لأحكام القرآن، والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان) (7)، وهو تفسيرٌ شاملٌ وليس خاصَّا بأحكامِ القرآنِ، وقد قال في بيان ذلك: (فلما كان كتاب الله هو الكفيل بجميع علومِ الشرعِ، الذي استقلَّ بالسنة والفرضِ، ونزل به أمين السماء إلى أمين الأرضِ؛ رأيتُ أنْ أشتغلَ به مدى عمري، وأستفرغَ فيه مُنَّتِي (8)؛ بأن اكتبَ فيه تعليقًا وجيزًا، يتضمَّنُ نُكَتًا من التَّفسيرِ واللُّغاتِ، والإعرابِ والقراءاتِ، والرَّدِّ على أهل الزيغ والضلالاتِ، وأحاديث كثيرة شاهدة لما نذكره من الأحكام ونزول الآيات، جامعا بين معانيهما، ومبينًا ما أشكلَ منهما بأقاويلِ السَّلفِ ومن تبعهم من الخَلَفِ …) (9).
وهذا يعني أنَّ كتابَه شاملٌ للتَّفسيرِ، ومع هذا تراه سمَّاه باسمٍ يدلُّ على أنَّه سيكونُ متعلِّقًا بعلم الفقه والاستنباطِ، وإنما كان ذلك بسبب بروع مؤلفه في علم الفقه، واللهُ أعلمُ.
- والملاحظُ أنَّ حَشْوَ كتبِ التَّفسيرِ بهذه الموادِّ من العُلُومِ لا ضابطَ له، ولذا تجدُ المؤلفَ الذي برع في فنِّ من الفنونِ يحرصُ على الإشارة العابرةِ، ولو لم تكن في مجالِ ما يريدُ الحديثَ عنه، فيسهبُ في الحديثِ عن أمورٍ لا تخصُّ الآيةَ من أيِّ وجهٍ، ومن ذلك:
في قوله تعالى:?وَألْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارةِ إنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ? [يوسف:10]، قال القُرطبيُّ (ت:671): (الالتقاط: تناول الشَّيء من الطريقِ، ومنه اللَّقيطُ واللُّقَطَةُ.
ونحن نذكر من أحكامِها ما دلَّت عليه الآيةُ والسُّنَّةُ، وما قاله أهلُ العلمِ واللُّغةِ …) (10).
وإذا قرأتَ المسائل التي ذكرها في اللَّقيطِ وأحكامِه (11)، تبيَّنَ لك أنَّ هذه المسائلَ محلُّها كُتبُ الفقه، لا كتبُ التَّفسيرِ، والآيةُ لم تُشرِ إلى حكمٍ في هذا الموضوعِ حتَّى يُفسَّرَ.
وبهذه الاستطرادات وأمثالِها زادَ حجمُ كتابِه.
ولو اعتمدَ المؤلِّفونَ في التَّفسيرِ على ما تُعطيه ألفاظُ الآيةِ من التفسيرِ واقتصروا عليه، وتركوا هذه الاستطراداتِ التَّخصُّصيَّةِ التي محلُّها كتبُ ذلكَ الفَنِّ، لتضاءلَت أحجامُ كتبِهم كثيرًا.
ومن المهمِّ هنا أن لا يُفهَمَ أن هذه الاستطرادات في العلومِ من لوازمِ التَّفسيرِ، وإنَّما اهتمَّ كثيرٌ من العلماءِ الذين ألَّفُوا في التَّفسيرِ بتدوينها في تفاسيرِهم، لأنهم سلكوا منهجًا في التأليفِ يريدُون به استقصاءَ ما حولَ الآيةِ مما يرتبطُ بالعلمِ الذي برعُوا فيه.
فإن كان له ذلك العُذْرُ، فإنَّ هذا لا يعني أنَّ كلَّ كتابِه في علمِ التَّفسيرِ.
¥