ولم تكن تلك الثقافة التراثية هي كل حظ الرافعي، بل كان له بصر بما جد من علوم إنسانية لدى الغرب، وقد عرف الفرنسية معرفة حسنة، وقرأ بها عدة سنوات بعض ما اتفق له من كتب العلم و الأدب [11]. ومما قاله في معرض رده على سلامة موسى: " كذب سلامة في زعمه أني لا أعرف لغة أجنبية، فأنا أعرف الفرنسية و أستطيع الترجمة منها "، وحكى البدري عن زينب ابنة الرافعي أن أباها كان يتخذ عصر كل يوم مجلسا يراجع فيه المعْلمة الفرنسية مستعينا بمعاجم فرنسية و عربية، وذكر أنه وجد بين أوراقه قطعة من صحيفة فرنسية و قد جرى فيها قلم الرافعي بخط فرنسي بادي الجمال و الوضوح [12].
و الناظر إلى ما كان يوصي الرافعي تلميذه أبا رية بقراءته يجزم بسعة اطلاع هذا الأديب و تمكنه من الآداب الغربية [13]، و لا يقف الأمر عند معرفته أسماء الكتب، بل نجده إذ يناقش خصومه يعرض للحديث عن آداب اللغات الأوروبية " كأنه لم يكن يفوته منها شيء أحضر أو ترجم " [14].
و هكذا نرى أن الرافعي يتكئ في ثقافته على التراث العربي الإسلامي، و أنه إلى ذلك أحاط خبرا بما لدى الآخرين، ولكنها الإحاطة التي لا تفضي إلى الذوبان و التبعية، و إنما هي الإحاطة التي تمنح العقل قوة و طاقة و عافية يعود بها إلى تراثه أوفر ما يكون نشاطا، و أحد ما يكون بصيرة.
و من خلال هذه البنية الثقافية نستطيع أن نتلمس المؤثرات في أسلوبه و لغته، فأول ذلك كتاب الله عز وجل و حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم. و أدل شيء على تأثير لغة الكتاب العزيز و الحديث الشريف على لغته ما ذكره كاتب في مجلة أمريكية من أن الرافعي لو ترك (الجملة القرآنية) والحديث الشريف و نزع إلى غيرهما لكان ذلك أجدى عليه ولملأ الدهر [15].
و ثاني هذه المؤثرات ما حفظه من تراث العرب، و بيان فصحائهم، وقد سبق أن ذكرنا حفظه لنهج البلاغة و فصول من المخصص، و كثرة قراءته في كتب الجاحظ وابن المقفع و أبي الفرج، وقد قال ابن خلدون (رحمه الله ): " و على قدر جودة المحفوظ، وطبقته في جنسه، و كثرته من قلته تكون جودة الملكة الحاصلة عنه للحافظ … ثم تكون جودة الاستعمال من بعده، ثم إجادة الملكة من بعدهما … لأن الطبع إنما ينسج على منوالها " [16].
و ثم مؤثر ثالث هو قراءته الواسعة في شتى فنون الثقافة الإسلامية، ونحن نعلم أن لغة كثير من المصنفين من فقهاء أو محدِّثين أو مؤرخين أو غيرهم لم تكن محل ثقة عند نَقَدة الاستعمال اللغوي، وحسبك أن الأصمعي قد خطأ سيبويه و أبا عبيدة و الأخفش [17]. وقد ظهرت في كتابة الرافعي أساليب تأثر فيها بلغة هؤلاء المصنفين.
أما رابع المؤثرات فهو ما ولع به الرافعي من النظر في الكتب المترجمة؛ فقد " تسللت إليه بعض عبارات التراجمة، واستعملها من غير أن يفطن إلى ما وراءها، على الرغم من شدة حساسيته " [18]، وصارت جملته من أجل ذلك في نظر البعض " تشبه الجملة المترجمة أحيانا لفرط تحررها من الأنماط القديمة " [19]، و أحسب أنه تأثر كذلك بما كان يقرؤه من الفرنسية مباشرة.
3ـ مذهبه في الكتابة
تحكم مذهب الرافعي في الكتابة أصول نظرية آمن بها و اتخذها نبراسا، ثم بنى عليها فنه و أدبه. و لعلي أشير هنا إلى نصوص من أقواله ترسم لنا ملامح هذه الأصول:
أ. " إن كلمةً قرأتها لفكتور هوجو كان لها أثر في الأسلوب الأدبي الذي اصطنعته لنفسي، قال لي الأستاذ فرح أنطون مرة: إن لهوجو تعبيرا جميلا يعجب به الفرنسيون كل الإعجاب وهو قوله يصف السماء ذات صباح: (و أصبحت السماء صافية كأنما غسلتها الملائكة بالليل). و أعجبتني بساطة التعبير و سهولة المعنى؛ فكان ذلك حذوي من بعد في الإنشاء " [20].
ب. " لعل غموض بعض الفلاسفة و بعض الشعراء هو من دليل الطبيعة على أنهم زائدون في الطبيعة " [21].
ج. " إن مذاهب العرب واسعة، و لنا ما لهم من التصرف في الاستعمال إذا لم نخرج عن قاعدتهم، و قد يزيد الإنسان حرفا لاستقامة الأسلوب، و إن خالف نقل اللغةِ، كما يزيد العرب و يحذفون من أمثال ذلك، وهو كثير في كلامهم، والقرآن أبلغ شاهد عليه، فدعنا من هذا و مثله، و أعتقد أن مذاهب العرب ليست بالضيق الذي يتصورونه " [22].
د. " لا قيمة لكاتب لا يضع في اللغة أوضاعا جديدة " [23].
¥