هـ. " لا نقول: هذه العربية كاملة في مفرداتها، و لا إنه ليس لنا أن نتصرف فيها تصرف أهلها " [24].
و. " إن القول بأن هذه فصيحة، وهذه مولدة قد مضى زمنه؛ فإنما الباعث عليه قرب عهد الرواة من فصحاء العرب في الصدر الأول، ثم تقليد علماء اللغة المتأخرين لأولئك الرواة تحقيقا بشروط هذا العلم الذي يحملونه … إذا كنا في كل كلمة نقول: نص الجوهري، و ابن مكرم و المجد، و فلان و فلان، و نغفل عما وراء ذلك مما تنص عليه طبيعة اللغة من أوزانها و قواعدها، و طرق الوضع و الاستعمال فيها؛ فما نحن بأهل هذه اللغة، و لا بالقائمين عليها، و لا هي لغة عصرنا " [25].
ز. " إن الخاصية في فصاحة هذه اللغة ليست في ألفاظها، و لكن في تركيب ألفاظها " [26].
ح. " الكاتب العلمي تمر اللغة منه في ذاكرة و تخرج كما دخلت عليها طابع واضعيها، و لكنها من الكاتب البياني تمر في مصنع و تخرج عليها طابعه هو " [27].
ط. " ما أرى أحدا يفلح في الكتابة و التأليف إلا إذا حكم على نفسه حكما نافذا بالأشغال الشاقة الأدبية كما تحكم المحاكم بالأشغال الشاقة البدنية " [28].
ي. " يريدون فوق ذلك أن يطرحوا عنا كَدَّ الصناعة؛ لتكون خاتمة عجائبنا في هذا الجيل صناعة بلا كدٍّ " [29].
ك. " و لقد ذكروا أن أناتول فرانس كان من التوفر على التنقيح، و التلوم على السبك، و الحوك في كتابته و أسلوبه بحيث يكتب الجملة الواحدة مرة إلى مرتين إلى سبع مرات أو ثمان، ينقح في كل ذلك و يهذب و يتعمل، فهذا عندهم طلق مباح، ولكنّ بعضه عندنا و إن جاء بالمعجزات يكفي لأن يقلب المعجزة إلى حيلة و شعوذة " [30].
ل. " إن مدار العبارات كلها على التخيل و تصوير الحقائق بألوان خيالية لتكون أوقع في النفس، و من هنا كان الذين لا معرفة لهم بفنون المجاز أو لا ميل لهم إلى الشعر لا يميلون إلى كتابتي، و لا يفهمون منها حق الفهم، مع أن المجاز هو حلية كل لغة و خاصة العربية، و لا أعد الكاتب كاتبا حتى يبرع فيه، وهذا الذي جعلني أكثر منه مع أنه متعب جدا " [31].
م. " و ما المجازات و الاستعارات و الكنايات و نحوها من أساليب البلاغة إلا أسلوب طبيعي لا مذهب عنه للنفس الفنية " [32].
إن هذه النصوص ترسم ملامح المذهب الكتابي الذي يرتضيه الرافعي، وهو مذهب يقوم على الأصول التالية:
1ـ بساطة التعبير و وضوح المعنى.
2ـ التوسعُ في مذاهب العربية، و عدم الاقتصار على تقليد أساليب الأوائل، والتجديدُ الدائمُ في ألفاظها و أساليبها، على أن يكون ذلك وَفق طبيعة اللغة و أوزانها وقواعدها.
3ـ العناية بالتراكيب أكثر من العناية بالألفاظ، و مراعاة تناسبها و موسيقاها.
4ـ تميز الأديب في أسلوبه، و أن تكون عباراته عليها طابعه هو.
5ـ الكدّ و الاجتهاد في الكتابة، و معاودة النظر و التنقيح، و إنكار مذهب السهولة و الاسترسال فيها.
6ـ الاحتفال بالمجاز و العناية به.
و كل هذه الملامح ظاهرة فيما كتب الرافعي إلا ما ذكره من بساطة التعبير ووضوح المعنى، فإن هذا لا يسلَّم له في كل ما جاء به، فقد كان الرافعي نتيجة لتتبعه دقائق المعاني و إغراقه في المجاز، وتوليده المعنى من المعنى، و الفكرة من الفكرة، يغرق أحيانا في الغموض حتى لا تكاد تدرك مراده و مبتغاه، وقد تنبه الأدباء لمثل هذا الغموض في أسلوبه، و استغله خصومه للطعن عليه و الزراية به، حتى لقد قال طه حسين عن كتابه (حديث القمر): " اللهم إني أشهد أني لا أفهم شيئا … ومهما يكن من شيء فإن الذين يريدون أن يروضوا أنفسهم على الطلاسم، واقتحام الصعاب، و تجشم العظائم من الأمور يستطيعون أن يجدوا في كتاب الرافعي ما يريدون " [33]! ورأى آخرون من أنصار الرافعي أن هذا الغموض إنما هو " من تحريه صفة الشعر و البيان " [34]، ونعَتَه صدّيق شيبوب بروعة الغامض، و شبهه بالأديب الفرنسي (موريس باريس) [35]، وقال العريان: " و من هذا الكتاب ـ يعني حديث القمر ـ كانت أول التهمة للرافعي بالغموض والإبهام واستغلاق المعنى عند فريق من المتأدبين، و منه كان أول زادي و زاد فريق كبير من القراء الذي نشؤوا على غرار في الأدب لا يعرفه ناشئة المتأدبين اليوم " [36].
¥