تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

على أن الرافعي حين كتب في الرسالة، وصار له جمهور، تبسط في أسلوبه، و مال إلى الوضوح؛ إذ كان من قبل يكتب لنفسه، و إرضاء لفنه، غير عابئ بوضوح المعنى لدى قارئه، إذا كان هو يراه واضحا في نفسه، فلما أدرك حق قرائه عليه تخفف من ذلك الغموض، ومن هنا ظهر الفرق بين كتابه: (وحي القلم) و بين غيره من كتبه.

و يحسن هنا أن ننقل كلمة للزيات حاول بها أن يفسر شِيَةَ الغموض التي تعرو بعض ما كتب الرافعي، قال (رحمه الله!) ‍: " كان يحمل الفكرة في ذهنه أياما يعاودها في خلالها الساعة بعد الساعة بالتقليب و التنقيب و الملاحظة و التأمل، حتى تتشعب في خياله وتتكاثر في خاطره، و يكون هو لكثرة النظر والإجالة قد سما في فهمها على الذكاء المألوف، فإذا أراد أن يعطيها الصورة ويكسوها اللفظ، جلاها على الوضع الماثل في ذهنه، وأداها بالإيجاز الغالب على فنه، فتأتي في بعض المواضع غامضة ملتوية وهو يحسبها واضحة في نفسك وضوحها في نفسه " [37].

قلت: إن الملامح التي رسمها الرافعي للكتابة الأدبية الناضجة قد تحققت في أدبه هو إلا ما ذكره من الوضوح و السهولة و البيان، و لنتلمس ذلك فيما كتبه و ما رواه عنه أصفياؤه وخلطاؤه.

توسع الرافعي كثيرا في مذاهب بناء الجملة، و لو أراد أحد " أن يتتبع ما أجدَّ الرافعيُّ على العربية من أساليب القول لأخرج قاموسا من التعبير الجميل يعجز عن أن يجد مثله لكاتب من كتاب العربية الأولين " [38]؛ فمن ذلك قوله: شيطان ليطان و سهلا مهلا على الإتباع، واختراعه كلمة (أما قبل) [39]، و إيثاره (آخر أربع مرات) [40] في مقابل: رابع مرة، وإدخاله حرفا على حرف من نحو قوله: في هل [41]، و استخدامه كلماتٍ ينازعه في فصاحتها غيره مثل: اكتشف، و الزهور، و الورود [42]، و تجويزه النسبة إلى الأخلاق [43]، وذهابه إلى قياسية التضمين [44]. و سوف يظهر لنا من خلال التحليل النحوي للمستويات التركيبية في الجملة الرافعية أن له تراكيب كثيرة يرفضها الأصل النحوي؛ فمنها ما يتأتى تخريجه بتأويل و نحوه، و منها ما لا يكاد يستطيع أحد إخراجه من دائرة الخطأ، وكل ذلك مرده إلى جرأته و توسعه.

و تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الجرأة و هذا الاقتحام مما لا يكاد يخلو منه أديب فذّ خلال تاريخ العربية الطويل، و أنا أنقل هنا كلمة لابن جني (رحمه الله!) تبسط وجه العذر في ذلك، و تبين مأتاه، قال (رحمه الله!) و هو يتحدث عن الضرورات و إقدام الشاعر عليها: " فمتى رأيت الشاعر قد ارتكب مثل هذه الضرورات على قبحها وانخراق الأصول بها، فاعلم أن ذلك على ما جَشِمَه منه و إن دلَّ من وجه على جوره و تعسفه، فإنه من وجه آخر مؤذن بصِيالِهِ و تخمُّطه، و ليس بقاطع دليل على ضعف لغته، و لا قصوره عن اختيار الوجه الناطق بفصاحته، بل مثَلُه في ذلك عندي مثل مُجْري الجَموح بلا لجام، ووارد الحرب الضروس حاسرا من غير احتشام، فهو وإن كان ملوما في عنفه وتهالكه، فإنه مشهود له بشجاعته وفيض مُنَّتِه؛ ألا تراه لا يجهل أن لو تَكَفَّر في سلاحه، أو أَعْصَم بلجامٍ جوادَه، لكان أقرب إلى النجاة، وأبعد عن المَلْحاة، لكنه جشِم ما جشِمه على علمه بما يعقب اقتحام مثله، إدلالا بقوة طبعه، ودلالة على شهامة نفسه " [45]، ولله هذه الكلمة الجليلة التي فاه بها ابن جني (رحمه الله!).

ومن كل ما سبق كان الرافعي على شدة حفاظه على أسلوب العربية يبني جمله وعباراته على نمط لم يكن قط كتلك الأنماط التي عرفت لسابقيه من فحول البيان، وعلينا وقد عرفنا ذلك أن نحسن الظن به وبغيره من كبار المنشئين، " ونحاول استكشاف أسرار التراكيب لديهم، حتى تلك التي تبدو على أنها ـ من وجهة نظرنا ـ مخالفات نحوية يرتكبونها " [46].

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير