و أما الملمح الثاني و هو العناية بالتراكيب أكثر من العناية بالألفاظ، فهو بَيِّنٌ كذلك في كل ما كتب. و قد كان الرافعي (رحمه الله!) يعتدُّ الكتابة هندسة كهندسة البناء سواء بسواء؛ فكما أن الفرق بين منزل حسن و آخر قبيح إنما هو في تناسب أجزائه، وتلاؤم أطرافه، و حسن تخطيطه، فكذلك الفرق بين كلام حسن و كلام قبيح، فالألفاظ هي الألفاظ و إنما الشأن في نسقها و إلف بعضها لبعض، ووقوعِ كلٍّ موقعَه اللائق به. وتأمل قوله: " ههنا خوان في مطعم كمطعم الحاتي مثلا عليه الشواء و الملح والفلفل والكواميخ أصنافا مصنفة، و آخر في وليمة عرس في قصر و عليه ألوانه وأزهاره، ومن فوقه الأشعة، ومن حوله الأشعة الأخرى من كل مضيئة في القلب بنور وجهها الجميل، أفترى السهولة كل السهولة إلا في الأول؟ و هل التعقيد كل التعقيد إلا في الثاني؟ ولكن أي تعقيد هو؟ إنه تعقيد فني ليس إلا " [47]؛ ولذلك " كانت له عناية واحتفال بموسيقية القول، حتى ليقف عند بعض الجمل من إنشائه برهة طويلة يحرك بها لسانه حتى يبلغ بها سمعه الباطن، ثم لا يجد لها موقعا من نفسه فيردها و ما بها من عيب ليبدل بها جملة تكون أكثر رنينا و موسيقى " [48].
و تميُّزُ أسلوب الرافعي، و مباينته لكل أسلوب سواه، و دلالته على صاحبه، مما اجتمعت عليه الكلمة، و لا أعلم أديبا معاصرا حاز من هذه الفضيلة ما حازه الرافعي؛ فقد " كان في الكتّاب طريقة وحده " [49]، وكان يكتب في الصحف مرارا بدون توقيع فينمُّ أسلوبه عليه، حصل ذلك في مقالات (على السفود) [50]، و في مقالة (جنود سعد) [51]، و هو و إن كان يحفظ و يقرأ لأعلام الكتاب فإنه كان " يجمع أطرافا من أولئك بطريقة رافعية " [52]. لقد استطاع الرافعي " أن يكون أمثولة فريدة في غناء البيان العربي وحياة البلاغة … ألا ترى أن عبارته و جملته و أسلوبه تظهر لقارئيه للوهلة الأولى؟ " [53]
و أما تعبه في الكتابة و كدُّه فيها فقد بلغ فيه الغاية، و عرف ذلك عنه، و دفع ذلك طه حسين إلى أن يقول عن كتاب (رسائل الأحزان): " إن كل جملة من جمل الكتاب تبعث في نفسك شعورا قويا أن الكاتب يلدها ولادة، و هو في هذه الولادة يقاسي ما تقاسيه الأم من آلام الوضع " [54].
كان الرافعي (رحمه الله!) " يجهد جهده في الكتابة، و يحمل من همها ما يحمل " [55]، وكان " لا يرحم نفسه إذا حملها على شيء " [56]، و ربما اقتضاه المقال الواحد أن يقرأ مئات الصفحات كما حدث عند كتابته مقالة (البلاغة النبوية)، فهو "لم يتهيأ لكتابتها حتى قرأ صحيح البخاري كله قراءة دارس، و أنفق في ذلك بضعة عشر يوما … ثم كتب الفصل بعد ذلك في ثلاثة أيام " [57]. وقل مثل ذلك فيما كتبه عن شوقي و حافظ فهو لم يقدم على ذلك حتى قرأ ديوانيهما قراءة متذوِّقٍ متأمِّلٍ [58]، وحسبي أن أشير هنا إلى نُتَفٍ من أقواله يصف فيها ما عاناه من نصب في تأليف كتابه أوراق الورد:
ـ " لأني شديد التعب في هذا الكتاب، و الكتابة فيه عسرة جدا " [59].
ـ " أوراق الورد انتهى، و سأبدأ في التنقيح و التبييض و هو عمل شاق، و الله المعين، و هذا الكتاب تعبت فيه كثيرا " [60].
ـ " وقد تعبت فيه أشد التعب " [61].
ـ " لا بد أن أوراق الورد كان طاحونة للأعصاب " [62].
ـ " كل هذا التخريب العصبي جاء من أوراق الورد و من النزلة الملعونة " [63].
لقد كان الرافعي يأخذ الكتابة مأخذ الجد، و ما كان يرضى فيها بالسهولة التي تفضي إلى سقوط المبنى و المعنى، و لم يرض قط أن يشعوذ على قرائه بكلام غير محرر ليملأ به فراغا من صحيفة.
و أما المجاز و إكثاره منه، فحسبك شاهدا عليه أن تقرأ كتبه الثلاثة: (حديث القمر) و (رسائل الأحزان) و (السحاب الأحمر)؛ فإنك لن تعدم فيها فنونا من المجاز متداخلةً آخذا بعضها بحجز بعض، يُسْلِمُك الواحد منها إلى الآخر. وربما أفضى به التوسع في المجاز ومخاطرته فيه ومداخلة بعضه في بعض إلى درجة من الغموض و التعقيد [64].
4ـ كيف كان يكتب؟
¥