وأما قولهم: "يلزم أن لا نقبل خبرا متواترا ولا يوثق بكتاب نبي", فلا يلزم شيء من ذلك فإن الخبر إذا تطرقت إليه أمثال تلك الاحتمالات فلا يوثق بنقله, ولا يعول عليه لإمكان تلك الآفات.
[اعتراض القرطبي على بعض ما في التوراة من نصوص] وبعد هذا فالآن حان أن نذكر بعض ما وقع في التوراة مما يطرق إليها التهم ومن ذلك.
[النص الأول] ما ذكروه فيها في المصحف الأول منها:" ورأى الله أن قد كثر فساد الآدميين في الأرض فندم على خلقهم وقال سأذهب الآدمي الذي خلقت على الأرض والخشاش وطيور السماء لأني نادم على خلقتها جدا " [التكوين 6:6 - 7] وهذا في حق الله تعالى محال إذ الندم إنما يلحق من لا يعلم مصير المندوم عليه ومآله واعتقاد هذا في حق الله كفر إذ ينبئ عن أن الله تعالى جاهل وأنه متغير تعالى عن ذلك علوا كبيرا ولفظ الندم هنا نص لا يقبل التأويل فهو كذب وباطل قطعا.
[النص الثاني] ومن ذلك ما ظهر في الوجود خلافه وذلك أنهم حكوا فيها أن "بني إسرائيل يسكنون تلك الأرض إلى الانقراض" [التكوين13: 15] ثم لم يلبثوا أن رأيناهم أخرجوا منها رأي العين فقد ظهر أن ذلك باطل وكذب. (هذا الاعتراض نقله القرطبي عن كتاب مقامع هامات الصلبان لأحمد بن عبد الصمد الخزرجي (ت.582هـ) الذي نقله عن رسالة لابن حزم في الرد على ابن النغريلة اليهودي).
إلى غير ذلك مما أورده القرطبي في كتابه ص194 - 202 من نصوص من الأسفار الخمسة المنسوبة لموسى (وتسمى عندهم التوراة) و من بعض أسفار العهد القديم الأخرى مثل سفر صموئيل الثاني وسفر الملوك الأول.
------.
[اعتراض بولس الراهب على وقوع التحريف في كتبهم]
(قال بولس الراهب): "وإذا تبين للخاصة والعامة ممن آمن بمحمد ومن كفر به أنه كان مصدقا لما بين يديه من الكتب والأنبياء مصدقا للتوراة والإنجيل شاهدا بأن موسى عليه السلام ومن كان متبعا له على الحق وأن المسيح عليه السلام ومن اتبعه على الحق وإن كان يكفر جميع اليهود والنصارى وغيرهم ممن بلغته رسالته ولم يؤمن به وشهد عليهم بأنهم حرفوا كثيرا من معاني التوراة والإنجيل قبل نبوته وأن أهل الكتاب كلهم مع المسلمين يشهدون أيضا بأن كثيرا من معاني التوراة والإنجيل حرفها كثير من أهل الكتاب لم يجز لأحد من أهل الكتاب أن يحتج بقول محمد على صحة دينهم الذي شهد محمد بأنه باطل مبدل منسوخ وأهله من أهل النار كما تقدم بسطه وإذا قالوا نحن نذكر ذلك لنبين تناقضه حيث صدقها وهي تناقض بعض ما أخبر به أو لنبين أن ما أخبرت به الأنبياء قبله يناقض خبره فيكون ذلك قدحا فيما جاء به". (الجواب الصحيح1/ 350)
[جواب ابن تيمية]
قال ابن تيمية:" أجاب المسلمون عن هذا بعدة طرق:
[الطريق الأول] أن يقولوا أما مناقضة بعض خبره لبعض كما يزعمه هؤلاء من أن كتابه يمدح أهل الكتاب مرة, ويذمهم أخرى, وأنه يصدق الكتب المنزلة تارة ويذمها أخرى, فهذا قد ظهر بطلانه فإنه إنما مدح من اتبع موسى والمسيح على الدين الذي لم يُبَدَّل ولم ينسخ وأما من اتبع الدين المبدل المنسوخ فقد كفره.
فأما دعواهم مناقضة خبره لخبر غيره, فيقال هو مصدق للأنبياء فيما أخبروا به, وأما ما بُدِّل من ألفاظهم أو غيرها بالترجمة أو فسر بغير مرادهم فلم يصدقه.
ويقال أيضا إن نبوة محمد تثبت بمثل ما تثبت به نبوات الأنبياء قبله وبأعظم من ذلك كما قد بُسط في موضع آخر وبُين أن التكذيب بنبوة محمد مع التصديق بنبوة غيره في غاية التناقض والفساد وأنه ما من طريق يعلم بها نبوة غيره إلا ونبوته تعلم بمثل تلك الطريق وبأعظم منها, فلو لم تكن نبوته وطريق ثبوتها إلا مثل نبوة غيره وطريق ثبوتها لوجب التصديق بنبوته كما وجب التصديق بنبوة غيره ولكان تكذيبه كتكذيب إبراهيم وموسى وغيرهما من الرسل فكيف إذا كان ذلك أعظم من وجوه متعددة وحينئذ فالأنبياء كلهم صادقون مصدقون معصومون فيما يخبرون به عن الله لا يجوز أن يثبت في خبرهم عن الله خبر باطل لا عمدا ولا خطأ فلا يجوز أن يخبر أحدهم بخلاف ما أخبر به غيره بل ولا يفترقون في الدين الجامع كما قال تعالى: [شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه] (سورة الشورى: 13) وقال تعالى: [يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وأن هذه
¥