وقد حمل ظهور الوضع في السنة وشيوع رواية الحديث في عصر التابعين، الفقهاء على الخوض في تمحيص مسائل كثيرة تتعلق بالسنة سنداً ومتناً. وفي هذا الشأن روي عن محمد بن سيرين (ت: 13ه) أنه قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم."
وفي مصادر التأريخ لنشأة المذاهب الفقهية عزيت إلى الأئمة نصوص وآراء، وسجلت محاورات ومراسلات جرت بينهم، تدل كلها على أنهم كانوا يسيرون وفق مناهج واضحة في استنباط الأحكام التي كانوا يفتون بها الناس، وعلى أن ما كان يأخذ به الصحابة والتابعون من ضوابط وقواعد قد أضحى في هذا العصر مصطلحات لها مفاهيم محددة تبلورت بسبب ما جرى بين الفقهاء من مناظرات ومحاورات كان لأصول الاستنباط ومناهجه حظ عظيم منها.
تدوين علم الأصول:
ظلت تلك المبادئ المنهجية الأصولية، سواء ما عرف منها في عصر الصحابة والتابعين أو في عصر نشأة المذاهب، متناثرة غير مجموعة ولا مدونة حتى كتب محمد بن إدريس الشافعي (توفي204ه) كتابه جواباً على طلب عبد الرحمن بن مهدي المحدث المشهور (توفي 198ه): أن يضع له كتاباً يحوي معاني القرآن، ويجمع مقبول الأخبار، ويبين حجية الإجماع، والناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة. وقد أرسل الشافعي كتابه هذا إلى ابن مهدي مع الحارث بن سريج، فسمي لذلك بالرسالة، إذ أن المؤلف لم يسمه بهذا الاسم، بل كان يشير إليه بقوله: كتابي أو كتابنا، أو في الكتاب كذا وكذا. وقد أملى الشافعي "الرسالة" مرة أخرى على تلاميذه بمصر، لتكون مقدمة لما أملاه في الفقه في كتاب الأم12.
فرسالة الشافعي أول مصنف في أصول الفقه، ومن ثم عده جمهور العلماء واضع علم الأصول. وهناك بعض الروايات التي تذهب إلى أن الإمام أبا حنيفة بيّن طرق الاستدلال في كتاب له يسمى كتاب الرأي، وأن صاحبيه أبا يوسف ومحمداً كتابا في هذا العلم بعد شيخهما، ويقرر علماء الشيعة الإمامية أن أول من دون علم الأصول، وضبطه هو الإمام محمد الباقر (توفي 114ه) 13.
ولا يستبعد أن يكون الشافعي قد سُبق في التأليف الأصولي، ولكن لم يصل إلينا قبل رسالة هذا الإمام كتاب في علم الأصول، وإنما هي روايات ونقول تعزى إلى بعض الأئمة حول بعض المسائل الأصولية. ولذا يظل الشافعي أول من كتب في الأصول كتابة علمية، رتبت أبواب هذا العلم وجمعت فصوله، ولم تقتصر على مبحث دون مبحث، وهو من ثم لم يسبق أو -على التحقيق- لم يعلم أن أحداً سبقه.
وكثرت بعد الشافعي الكتابة في الأصول، وكان لكتابه الرسالة تأثير واضح فيما ألف في القرنين الثالث والرابع، حيث انقسم العلماء بالنسبة إليه فريقين: فريقاً تقبل الرسالة وحولها إلى قاعدة حجاج عن مذهبه، وهؤلاء هم جمهور أهل الحديث، وفريقاً رفض معظم ما جاء فيها وانبرى لنقضه، وهؤلاء هم أهل الرأي, ومن في سلكهم من المخالفين لما وطأه الشافعي14.
ويمكن القول بوجه عام إن ما كتب بعد الرسالة، كان إما نقضاً لها ومحاولة لاستخلاص أصول فقهية مذهبية مستقلة كما فعل الأحناف، وإما شرحاً لها ودفاعاً عنها كما فعل الشافعية وغيرهم.
علم أصول الفقه: مدارس ومناهج.
وقد حصل مع بداية القرن الخامس ما يمكن عده تطوراً نوعياً لعلم الأصول. فقد تكامل نموه، واتضحت مباحثه، وتبلورت مسائله، ودون الفقهاء أصول مذاهبهم ومناهجهم في الاستنباط. وتراكم التأليف في علم الأصول، وظهرت كتابات كثيرة، منها ما هو مطول، ومنها ما هو موجز. وكما تشعبت طرق العلماء في التأليف، فمن الباحثين من يرى أن عدة هذه الطرق ثنتان، ومنهم من يذهب إلى أنها ثلاث. ولكن الدراسة الفاحصة للتراث الأصولي عبر مراحله التاريخية المختلفة، تقرر أن عدة هذه الطرق أو المناهج أربعة هي:
1. طريقة المتكلمين.
2. طريقة الأحناف.
3. طريقة الجمع بين المتكلمين والأحناف.
4. طريقة الشاطبي.
طريقة المتكلمين، وتسمى أيضاً طريقة الشافعية لكثرة مؤلفاتهم فيها، وكذلك لأن الإمام الشافعي يعد أول من كتب وفقاً لها.
وقد غلبت عليها سمة المتكلمين لأمرين:
الأول: أن المؤلفات المكتوبة على هذه الطريقة اعتاد أصحابها أن يقدموا لها ببعض المباحث الكلامية كمسائل الحسن والقبح، وحكم الأشياء قبل ورود الشرع.
¥