تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الثاني: أن علماء هذه المدرسة كانوا يسلكون في تقرير الأصول مسلكاً استدلالياً قائماً على تقرير القواعد والاستدلال على صحتها والرد على المخالفين، من غير أن يولوا الفروع التي تندرج تحت هذه القواعد كبير اهتمام، أو يراعوا تطبيق الفروع عليها16.

وقد ألفت على هذه الطريقة كتب كثيرة للشافعية والمالكية والحنابلة والظاهرية وبعض الشيعة الإمامية.

وتختلف طريقة الأحناف عن طريقة المتكلمين في أن تلك الطريقة تقرر القواعد الأصولية على مقتضى ما نقل من فروع عن أئمة المذهب الحنفي. فهؤلاء الأئمة لم يتركوا قواعد مدونة مجموعة كالتي تركها الشافعي لتلاميذه، وإنما تركوا بعض القواعد المنثورة في ثنايا الفروع الفقهية التي استنبطوها والفتاوى التي أفتوا بها. وعمد فقهاء المذهب إلى تلك الفروع يؤلفونها في مجاميع يوحد بينها التشابه، ثم يستنبطون منها القواعد والضوابط، لتكون سلاحاً لهم حين الجدل والمناظرة، وعوناً لهم على استنباط أحكام الحوادث الجديدة التي لم يعرض لها أئمتهم في اجتهاداتهم السابقة.

وهذه الطريقة -التي تسمى أيضاً طريقة الفقهاء- وإن بدت في ظاهر الأمر دفاعاً عن مذهب معين، إلا أنه كان لها أثرها الواضح في التفكير الفقهي إذ هي دراسة مطبقة في الفروع، فهي أقرب إلى الفقه لأنها تربط الفروع بأصولها، وتيسر طريق الاستنباط لمن أراد السير على منهج أئمة المذهب الحنفي. ولهذا جنح بعض العلماء من غير الأحناف إلى الكتابة، وفق تلك الطريقة، بعد أن استقامت واتضحت خصائصها.

وقد كان لطريقة المتكلمين أثرها كذلك في التفكير الفقهي، لأنها قررت القواعد دون التقيد بمذهب معين، فالأصول فيها حاكمة على الفروع، ومن ثم لم يتعصب علماء هذه الطريقة لمذاهبهم بل إن منهم من خالف إمامه فيما ذهب إليه.

إلا أنه يؤخذ على طريقة الأحناف أن بعض قواعدهم الأصولية جاءت ملتوية، فكان ذلك الالتواء نتيجة طبيعية لتحكيمهم الفروع تحكيماً تاماً. وقد كانوا إذا ما قعدوا قاعدة، ثم وجدوا –مثلاً- فرعاً فقهياً يشذ عنها، يلجأون إلى إعادة تقريرها في شكل جديد يتفق مع ذلك الفرع إما بوضع قيد أو بزيادة شرط وما إلى ذلك.

ويؤخذ على طريقة المتكلمين أنهم كثيراً ما يستطردون في أمور نظرية لا مدخل لها في الاستنباط فيتكلمون في أصل اللغات، وتكليف المعدوم وهل هو جائز أم لا، وهل كان الرسول صلى الله عليه وسلم متعبداً بشرعٍ قبل البعثة أم لا، إلى غير ذلك من مسائل علم الكلام.

على أن كثيراً مما ألف على طريقة المتكلمين لا يخلو من فروع فقهية. إلا أن الفرق بين المؤلفات الأصولية التي بنيت على طريقة المتكلمين وتخللتها الفروع الفقهية، وتلك التي بنيت على طريقة الفقهاء وتخللتها هذه الفروع هو أن الفروع في الأولى لا ترد بوصفها وسيلة لتقرير القاعدة، وإنما لبيان أثرها. أما في الثانية فترد الفروع لإثبات القاعدة أو الاستدلال على صحتها.

وقد استقر الأمر في التأليف الأصولي على الطريقتين مدة من الزمن، ثم طرأت فكرة التقريب بينهما، وتجنب ما كان يوجه إليهما من نقد، فظهرت طريقة ثالثة هي عبارة عن جمع بينهما وتركيب تأليفي بين منهجيهما. وقد قصد بذلك تحصيل فوائد الطريقتين معاً: خدمة الفقه بتطبيق القواعد الأصولية على مسائله وربطه بها، وتحقيق هذه القواعد وإقامة الأدلة عليها21. وتزخر المكتبة الأصولية بعديد المؤلفات التي بنيت على مقتضى طريقتي المتكلمين والأحناف، كما تزخر بمؤلفات تجمع بين النهجين.

وفي القرن الثامن الهجري جدَّت في التأليف الأصولي طريقة تختلف في منهجها عن الطرق الثلاث السالفة الذكر. ويقوم منهج هذه الطريقة على العناية بأسرار التشريع ومقاصده وتأكيد مراعاته للمصالح، وذلك في أسلوب تحليلي استقرائي مغاير لما عرف من قبل في دراسات علماء الأصول. وكان الإمام أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي الأندلسي (توفي780ه) علم هذه الطريقة في كتابه الموافقات، وكذلك في بعض ما جاء في كتابه الاعتصام حتى إنه ليمكن للمرء أن يتحدث عن طريقة الشاطبي في البحث الأصولي.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير