يعد كتاب الموافقات بإجماع الدارسين لفكر الشاطبي أو لتاريخ علم الأصول متفرداً في سياق الكتابة عن أصول الشريعة22 وحكمها. فقد أضاف إلى علم أصول الفقه ومؤلفاته بياناً إبداعياً في مقاصد الشريعة، وهو جانب كان حظه من العناية في المؤلفات الأصولية قليلاً وضئيلاً ولا يتناسب مع عظيم أهميته في عملية استنباط الأحكام23.
لقد اهتم الشيخ عبد الله دراز (توفي1351ه) بالموافقات اهتماماً خاصاً، وعلق على بعض ما ورد فيه مما يحتاج إلى تحرير وتفسير، أو نقد وتوجيه. وقد أشار في المقدمة التي كتبها لهذا الكتاب إلى أن علماء الأصول لم يكتبوا إلا في الركن الأول من ركني هذا العلم، أي علوم اللسان العربي، وأهملوا الركن الثاني ألا وهو علم أسرار التشريع ومقاصده. ويضيف الشيخ دراز قائلاً: "وقد وقف الفن منذ القرن الخامس عند حدود ما تكون منه في مباحث الشطر الأول، وما تجدد من الكتب بعد ذلك دائر بين تلخيص وشرح، ووضع له في قوالب مختلة. وهكذا بقي علم الأصول فاقداً قسماً عظيماً، وهو شطر هذا العلم الباحث عن أحد ركنيه حتى هيأ الله سبحانه وتعالى أبا إسحاق الشاطبي في القرن الثامن الهجري لتدارك هذا النقص وإنشاء هذه العمارة الكبرى في هذا الفراغ المترامي الأطراف في نواحي هذا العلم الجليل.24
وكتاب الموافقات، الذي لم يؤلف مثله حسب عبارة صاحب المنار يتكون من أربعة أجزاء. وقد التقى الشاطبي مع علماء الأصول في الأجزاء الأول والثالث والرابع منه في القضايا التي عرض لها، ولكنه تفرد في الجزء الثاني بحديث لم يسبق إليه، تناول فيه مقاصد التشريع. فهذه المقاصد ترد عادة في كتب الأصوليين في فصل قصير لا يتجاوز بضع صفحات يذكرون فيها ما يقال عن الاستدلال المرسل25 لأجل الأخذ بالمصلحة، وهي عند الشاطبي تستقل بربع الكتاب.
ومع هذا يرد الحديث عن المقاصد في الأجزاء الثلاثة الأخرى للكتاب، وكأنما المقاصد تمثل لحمة الكتاب وسداه للربط بين مختلف قضاياه. فالكتاب بكل أجزائه إذن إنما هو تعبير عن المقاصد الشرعية بأسلوب مباشر حيناً وغير مباشر حيناً آخر. وهو بذلك أول كتاب تدور كل مباحثه حول مقاصد الشريعة، ومنهج استنباط الأحكام وفقاً لهذه المقاصد.
وتجدر الإشارة -بعد إجمال القول في المناهج والطرق الأصولية- إلى أن القرنين الخامس والسادس عرفا أهم ما ألف في علم الأصول. ففي هذا العهد تكاملت ونضجت المدارس الأصولية وتبلورت مناهجها وأصبح ما كتب فيها من المؤلفات الأصولية مرجعاً لما ألف في القرون التالية.
وبالتالي فإن ما كُتِب في علم الأصول بعد القرن السادس كان -بوجه عام- جمعاً بين بعض ما كتب في هذه الحقبة، أو نظماً أو تلخيصاً أو شرحاً. وقد غلبت على هذه النوع من التأليف الصناعةُ الفنية، والميل إلى التشقيق والجدليات الخلافية، مما طغى على مقاصد العمل ورسالته. وقد أدى ذلك إلى جمود علم الأصول، فلم تتطور مباحثه على الرغم من كثرة المؤلفات فيه كثيرة هائلة.
على أن غالب المؤلفات الأصولية -إن لم تكن كلها- كان يسودها، على الرغم من تعدد الطرق والمناهج، النزعة المذهبية26، فهي تسعى للانتصار لمذاهب أصحابها وإبطال مذاهب المخالفين، وإن كانت في مجموعها تمثل المنهج العام للبحث الفقهي.
العلماء المحدثون والتأليف الأصولي:
أومأت في مستهل هذه الدراسة إلى أن المحدثين لم يختلفوا فيما كتبوا في الأصول من حيث النوع، وإنما جاء تفاوتهم في الصياغة من حيث الإيجاز والاطناب أو الدقة وعدمها.
ويلاحظ المستقرئ للمؤلفات الحديثة أن كثيراً منها أفرد موضوعات علم الأصول بالبحث والدراسة حيث نجد عدة دراسات مستقلة تتناول موضوعات محددة من علم الأصول، مثل الاجتهاد أو القياس أو المصلحة المرسلة.
والمؤلفات الحديثة كانت في أصلها مذكرات أعدت للطلاب والدارسين لهذا العلم حتى يتسنى لهم أن يحيطوا أو يلموا بمسائله، نظراً لأن الكتب القديمة لا تيسر لهم ذلك. فالغاية إذن كانت تسهيل علم الأصول وتذليل الصعوبات التي كان هؤلاء الطلاب والدارسون يلقونها في مطالعة الكتب القديمة.
¥