تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذا التطوير تفرضه المشكلات والتحديات التي تواجه الأمة في حاضرها، وهي مشكلات وتحديات تتصل أساساً بجوانب الحياة العامة أو الواجبات الكفائية، كقضايا الحكم والاقتصاد والعلاقات بين الشعوب والدول. أما العبادات فقد توافر فيها فقه كثير، ويحفظها المسلمون ولو ضيعوها لا يضيعونها اعتقاداً ولا يغفلوا عنها غفلة كاملة58. ولكن تلك القضايا العامة معطلة ومغفول عنها، ولا يكاد المنهج الأصولي يسعفنا فيها، ومن ثم تواجهنا فيها تحديات وأسئلة محرجة. ولذلك فإن من الواجب العمل على تطوير الأدلة الأصولية الخاصة بالقضايا العامة حتى تتسع دائرة الاجتهاد فيها، تطويراً محكوماً بمنهج يحفظ على التفكير الإسلامي وحدة الأسس ويضمن قلة الاختلاف.

وأهم الأدلة التي يجب أن يكون للاجتهاد الحديث رأي جديد فيها -تطويراً لعلم الأصول، ونأياً به عن التجريديات التي لا سبيل لها إلى التطبيق- الإجماع والقياس حتى يسهم عملياً في مواجهة المشكلات التي تواجه الأمة في الداخل والخارج.

إن الإجماع -بلا مراء- ذو أصل أصيل في الدين، وآيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم صريحة في مشروعية العمل بما وقع عليه الإجماع بين المؤمنين.59 ولكن ما مجال الإجماع، وهل لا بد فيه من اتفاق فقهاء أهل العصر كافة حتى يكون إجماعاً صحيحاً؟

إن هناك خلطاً بين ما هو معلوم من الدين بالضرورة60، ويورد مورد الإجماع، والقضايا الظنية التي تختلف حولها الأنظار ويذكر أن فيها إجماعاً. فالمعلوم من الدين بالضرورة لا ينسحب عليه المفهوم الأصولي للإجماع، لأنه ليس مجالاً للبحث والنظر، وإن صدق عليه أنه مجمع عليه من الأمة لأن كل جيل تلقاه عمن سبقه دون نكير من أحد. وهذا هو الذي لا يجوز لأحد مخالفته61 ويكفر منكره.

فالمتواتر المعلوم من الدين بالضرورة ليس من مجال الإجماع، وعليه فمجال الإجماع هو كل ما ليس فيه نص صريح من كتاب أو سنة، وقد بنى الحكم فيه على أساس الاجتهاد والتشاور والاتفاق بين علماء الأمة.

أما ما ثبت من آراء بعض العلماء وسكوت غيرهم من انتشار تلك الآراء فيهم مما يطلق عليه في كتب الأصول "الإجماع السكوتي"، فإنه -فيما رأى- لا يصح أن يسمى إجماعاً، والسكوت ليس دائماً آية على الموافقة. وجوهر الإجماع، يقوم على المحاورة والنقاش العلمي الذي تتبلور من خلاله الحقائق التي تقود المجتمعين إلى رأي فيما يبحثون فيه.

وإذا كان مجال الإجماع القضايا الظنية الاجتهادية -والإجماع السكوتي لا يسمى إجماعاً- فإن ما ذهب إليه علماء الأصول في تعريفهم للإجماع وإصرارهم على أن يكون اتفاقاً لا يخالف فيه أحد من المجتهدين في عصر من العصور مهما اختلفت الديار وتناءت الأوطان، لون من الافتراض الذي لا تشهد له نصوص الكتاب والسنة، ولم يدر في خلد جيل الصحابة رضوان الله عليهم. فقد كانوا يتشاورون ويقضون بما يجمعون عليه، وما كان إجماعهم إجماعاً لكل علماء الصحابة، وإنما كان إجماعاً لمن حضر منهم. فما كان أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي يتوقف الواحد منهم عن تنفيذ قراراته بعد استشارة من حضر من علماء الصحابة حتى أن يستشير غيرهم ممن هم منبثون في مختلف أصقاع المسلمين62.

فإجماع من حضر من الصحابة كان يعد إجماعاً صحيحاً يؤخذ به، ولم يكن هناك شرط بحضور كل علماء الصحابة حتى يصح الأخذ بهذا الإجماع. فتقييد صحة الإجماع باتفاق جميع المجتهدين في عصر من العصور -كما قرر علماء الأصول- لا ينهض له دليل ولا تؤيده آثار، ولهذا لم يتحقق هذا الإجماع المفترض في تاريخ الأمة. ولذلك يرى بعض العلماء المحدثين أن للسلف بالنسبة للإجماع عصرين متمايزين: عصر الشيخين أبي بكر وعمر بالمدينة، حيث كان المسلمون أمرهم جميع، وفقهاؤهم معروفون وإمامهم شوري لا يستبد دونهم بالفتوى، ويمكن استطلاع آرائهم جميعاً فيسهل بذلك أن نتصور إجماعهم. ولكن يبقى السؤال: هل أجمعوا فعلاً إجماعاً مطبقاً على الفتوى فيما عرض لهم من المسائل الاجتهادية؟

ويمكن الجواب بأن هناك مسائل كثيرة لا يعلم فيها خلاف بين الصحابة في هذا العصر، وهذا أقصى ما يمكن الحكم به. أما دعوى العلم بأنهم جميعاً أفتوا بآراء متفقة والتحقق من عدم المخالفة فهي دعوى تحتاج إلى برهان يؤيدها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير