تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما ما بعد ذلك العصر، عصر اتساع الدولة الإسلامية وانتقال الفقهاء إلى البلاد المفتوحة ونبوغ فقهاء آخرين من تابعيهم لا يكاد يحصرهم العد، مع الاختلاف في المنازع السياسية، والتوجهات الفكرية فلا نظن أن وقوع الإجماع إذ ذاك مما يسهل التسليم به63.

ومن الكتاب المحدثين من يذهب إلى أن الإجماع كما تحدث عنه علماء الأصول يمكن الاستغناء عنه، وعدم عده أصلاً من الأصول فضلاً عن أنه أدى إلى تفرق كلمة الأمة، وذلك لأن هؤلاء العلماء قد اتفقوا جميعاً على أنه لا بد من استناد الإجماع إلى نص من القرآن أو السنة، وإذا كان هذا شأنه فإنه لا معنى لعده أصلاً من أصول الاجتهاد معهما، ومن ثم يستغنى عنه بهما.

ويرى صاحب هذا الرأي أن عدم اعتبار الإجماع أصلاً من الأصول يحل لنا مشكلة كبيرة، وهي أن تصل الأمة إلى فقه يتعاون فيه كل المجتهدين ولا تنفرد به فرقة دون غيرها، فإبقاء الاحتجاج بالإجماع يجعلنا أمام إجماعات متعددة، إجماع لأهل السنة، وإجماع للشيعة، وإجماع لغيرهم. ومن الصعب أن نرجح إجماعاً على إجماع، فكل فرقة تتعصب لإجماعها، فكان الاستغناء عن الاحتجاج بالإجماع وسيلة لجمع الكلمة، واتفاق الأمة64.

وقد يكون هذا الرأي مقبولاً من حيث نقده لعلماء الأصول في أن الإجماع لا بد من أن يكون له مستند من نص، لأن النص سيكون مصدر الحكم وليس الإجماع، فلا معنى لاعتباره أصلاً من الأصول. ولكنه ليس مقبولاً من حيث دعوته إلى الاستغناء عن الإجماع وعدم الاحتجاج به، ومن حيث القول بأنه يؤدي إلى تفرق الأمة. فالإجماع مصدر تشريعي خصب يكفل تجدد الفقه ونموه، وبخاصة في العصر الحاضر. فهذا العصر تقتضي دراسة مشكلاته دراسة علمية وافية بتخصصات مختلفة، ومعارف متعددة. وبالتالي لا يمكن أن يكون الأخذ بالإجماع والاعتماد عليه سبباً للتفرق والتعصب، وإنما يصبح الأخذ به على أسس جديدة، وفقاً لمفاهيم جديدة سبيلاً لاجتهاد جماعي يقرب بين المذاهب ويحد من التنافر والاختلاف بينها.

وحتى يمكن أن يكون الإجماع كذلك ينبغي أن يتطور مفهومه ليصبح تعبيراً صحيحاً عن الإجماع الذي تؤيده النصوص والآثار الصحيحة، فلا يكون فرضاً نظرياً ننفق الوقت في دراسته، دون جدوى عملية من هذه الدراسة.

وتطوير مفهوم الإجماع ينبغي أن يشمل تغيير تعريفه، فلا يظل مقصوراً على اتفاق جميع المجتهدين في كل الأقطار الإسلامية وإصرار كل واحد منهم على رأيه حتى وفاته، وإنما يشمل إلى جانب هذا -إن تحقق- اتفاق الجمهور أو الأغلبية65، فهذا الاتفاق من أهل الذكر يكون كافياً في حصول الإجماع. فالقضايا الظنية بطبيعتها تحتمل الخلاف، وليس من اليسير أن يتفق عدد كبير من المجتهدين على رأي واحد فيها، وهذا ما ذهب إليه بعض القدماء66 من العلماء كأحمد بن حنبل (توفي164ه)، وابن جرير الطبري (توفي310ه) وأبي بكر الرازي (توفي 370ه). وقد ذهب إليه كثير من المعاصرين كالشيخ الخضري، والشيخ عبد الوهاب خلاف (توفي 1375ه) والشيخ محمود شلتوت (توفي 1383ه) وغيرهم من الفقهاء الذين نقدوا ما جاء عن القدماء من جدل ومناقشات حول قضايا نظرية بحتة لا سبيل إلى أن تقع أو يتحقق بها اجتهاد وتشريع.

وتطوير دراسة الإجماع لا يكون بتغيير مفهومه فحسب، وإنما يصبح هذا التطوير منطلقاً لتصور جديد يلغي ما يسمى بالإجماع السكوتي ويجيز نسخ الإجماع بالإجماع، ولا يهتم كثيراً بالجدل الأصولي حول حجية الإجماع، فالأدلة والآراء في هذا كلها احتمالية. ويتطلب هذا التطوير لمفهوم الإجماع التركيز بصفة خاصة على الاجتهاد الجماعي وإبراز مدى حاجة الأمة إليه فيعصرها الحاضر، ودراسة سبل تحقيقه عن طريق مجمع فقهي عام يمثل بعضويته المجامع الفقهية المحلية المتعددة في العالم الإسلامي.

وهذا المجمع الفقهي العام ينظر فيما يهم المسلمين جميعاً أو في القضايا ذات الصبغة المشتركة بين الشعوب الإسلامية، وتبقى للمجامع المحلية رسالتها في دراسة المسائل والمشكلات التي يكون للعرف وظروف البيئة أثر في الحكم عليها، وبيان حكم الدين فيها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير