تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإذا كان علماء الأصول قد وضعوا للإجماع من الشروط ما جعل حديثهم عنه حديثاً مثالياً، فإن ما جاء عن هؤلاء العلماء بالنسبة للقياس قد حصره في دائرة ضيقة، وهي دائرة تعدية حكم الأصل إلى الفرع بجامع العلة المنضبطة. وهذا النمط من القياس يقتصر على قياس حادثة محدودة على سابقة محدودة معينة ثبت فيها حكم بنص شرعي فيضيفون الحكم إلى الحادثة المستجدة.

ومثل هذا القياس المحدود "ربما يصلح استكمالاً للأصول التفسيرية في تبيّن بعض الأحكام كأحكام النكاح والآداب والشعائر. ولكن المجالات الواسعة من الدين لا يجدي فيها إلا القياس الفطري الحر من تلك الشرائط المعقدة التي وضعها له مناطقة الإغريق، واقتبسها الفقهاء الذين عاشوا مرحلة ولع الفقه بالتعقيد الفني، وولع الفقهاء بالضبط في الأحكام الذي اقتضاه حرصهم على الاستقرار والأمن، خشية الاضطراب والاختلاف في عهود كثرت فيها الفتن وانعدمت ضوابط التشريع الجماعي الذي ينظمه ولي الأمر."67

والتوسع في مفهوم القياس منطلقه أن ما ثبت من الأحكام التي وردت بها النصوص المبنية على علل وأسباب شرعت لأجلها، وأن هذه العلل -كما يدل الاستقراء- مرجعها جميعها إلى تحقيق مصالح الناس، فكل ما يحقق مصلحة للناس في معاملاتهم في أي زمان ومكان يكون مشروعاً قياساً على ما نص عليه، والعلة هنا هي المصلحة، وليست كما قرر الأصوليون الأمر الجامع المنضبط بين المقيس والمقيس عليه كالسكر مثلاً بين الخمر وسائر المخدرات.

فأساس القياس هو التحقق من أن الحكم الذي يراد تشريعه في الواقعة المسكوت عنها فيه جلب نفع للناس، أو دفع ضرر أو رفع حرج عنهم، فمتى تحقق أن الحكم في الواقعة يحقق هذه المصلحة فهو حكم شرعي، وتشريعه هو قياس صحيح على ما شرعه الله، لأن الله ما شرع الأحكام إلا لنفع الناس أو دفع الضرر أو رفع الحرج عنهم. ومن عدل الله وحكمته أن تستوي أحكام الوقائع التي استوت في عللها وأسبابها وأن لا تبيح تصرفاً لأن في إباحته رفع حرج، وتحرم تصرفاً مثله68.

وقد قرر علماء الأصول أن المناسبة مسلك من المسالك التي يتوصل بها إلى معرفة علة الحكم. ومعنى المناسبة أن تكون الواقعة المسكوت عنها فيها وصف أو خاصية لو شرع الحكم على أساسها يكون في تشريعه جلب نفع أو دفع ضرر أو رفع حرج، ومعنى هذا أن مناط التعليل وأساسه بناء الحكم على المصلحة، وبهذا يمكن أن يكون القياس ميداناً واسعاً للاستنباط والاجتهاد، ومجالاً فسيحاً للعقل الإنساني لتحقيق مصالح الناس، وتنمية الفقه وعدم الجمود على الموروث عن علماء الأصول في القياس.

وقريب من هذا ما ذهب إليه الدكتور حسن الترابي. فهو يرى أن التوسع في القياس سبيله أن نعد "الطائفة من النصوص ونستنبط من جملتها مقصداً معيناً من مقاصد الدين، أو مصلحة معينة من مصالحه، ثم نتوخى ذلك المقصد حيثما كان في الظروف والحادثات الجديدة". ثم يقول: "وهذا فقه يقربنا جداً من فقه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، لأنه فقه مصالح عامة واسعة، لا يلتمس تكييف الواقعات الجزئية تفصيلاً فيحكم على الواقعة قياساً على ما يشابهها من واقعة سالفة، بل يركب مغزى اتجاهات سيرة الشريعة الأولى، ويحاول في ضوء ذلك توجيه الحياة الحاضرة."69

ويذهب الترابي إلى أن هذا القياس الواسع أو "قياس المصالح المرسلة يعد درجة أرقى في البحث عن جوهر مناطات الأحكام، إذ نأخذ جملة من أحكام الدين منسوبة إلى جملة الواقع الذي تتنزل فيه، ونستنبط من ذلك مصالح عامة ونرتب علاقاتها من حيث الأولوية والترتيب. وبذلك التصور لمصالح الدين نهتدي إلى تنظيم حياتنا بما يوافق الدين، بل يتاح لنا -ملتزمين بتلك المقاصد- أن نوسع صور التدين أضعافاً مضاعفة."70

ومما له علاقة بالقياس من الأدلة الاستحسان، وقد بنى عليه جمهور المجتهدين اجتهادهم في كثير من الوقائع. ومرجع الاختلاف بين الشافعية والعلماء الذين أخذوا بالاستحسان كالحنفية والمالكية هو في الحقيقة اختلاف غير ذي موضوع، لأن الشافعية نظروا إلى الاستحسان كأنما هو رأي محض لا يستند إلى دليل فأنكروه. أما الآخرون فقد نظروا إليه على أنه رأي ناتج عن المقارنة بين الأدلة وترجيح بعضها على بعض. ولذلك قال الشاطبي: "إن الخلاف يرجع إلى الإطلاقات اللفظية ولا محصل له."71

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير