ولهذا تقع مشكلة الآن في وصايا الناس، تجد الرجل يوصي بوصية وتكون عنده في الدفتر وينساها، ثم يوصي وصية أخرى لو جمعت إلى الأولى لضاق الثلث، وإن عمل بإحداهما نفذت كذلك - أيضاً - تختلف الشروط التي اشترط فيها، مثلاً يقول: هذه على الفقراء، وهذه على طلبة العلم، وهذه على المساجد، وهذه لإصلاح الطرق، فيشكل على الورثة.
ومن ثَمَّ نقول: ينبغي لطلاب العلم أن يرشدوا الناس إلى أنهم إذا أراد أحدهم أن يوصي وصية يقول: وهذه الوصية ناسخة لما سبقها، فيؤخذ بقوله هذا؛ لأن الرجوع في الوصية جائز فكلما كتب الإنسان وصية ينبغي أن ينتبه لهذا؛ حتى لا يوقع الموصى لهم والورثة في حيرة فيما بعد، فيستريح ويريح.
قوله: " ولا يملك الرجوع فيها " أي: لا يملك الرجوع في العطية؛ لأنها لزمت؛ لأن العطية نوع من الهبة، فلو أعطى رجلاً ألف ريال وقبضها، صار ملك الألف للمعْطَى، ولا يمكن أن يرجع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس لنا مثل السوء، العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه».
والوصية يملك الموصي الرجوع فيها، فلو أوصى ببيته لفلان، وقال: هذا البيت بعد موتي يُعْطَى فلاناً ملكاً له، ثم رجع فإنه يجوز؛ لأن الوصية لا تلزم إلا بعد الموت فله أن يرجع.
هذا هو الفرق الثاني: أن العطية اللازمة - وهي المقبوضة - لا يملك الرجوع فيها، والوصية ولو قبضها الموصى له فإن الموصي يملك الرجوع فيها؛ لأنها لا تلزم إلا بعد موته.
الفرق الثالث:
قوله: " ويعتبر القبول لها " أي: للعطية.
قوله: " عند وجودها " لأنها هبة، فيعتبر أن يقبل المعطى العطية عند وجودها قبل موت المعطي فإذا أعطاه العطية فإنه يقبل في الحال، والوصية لا يصح قبولها إلا بعد الموت، حتى لو قال الموصي: إني أوصيت لك بهذا البيت بعد موتي ملكاً لك، فقال الموصى له: قبلت وشكر الله سعيك وجزاك الله خيراً، وذهب إلى كاتب العدل وقال: إني أوصيت ببيتي لفلان بعد موتي، فله أن يرجع؛ لأنها وصية.
الفرق الرابع: أنه لا يثبت الملك للموصَى له من حين تم عقد الوصية، بل الملك للموصي بخلاف العطية فإنه يثبت الملك فيها حين وجودها وقبولها؛ ولهذا قال:
" ويثبت الملك إذاً " أي عند وجودها وقبولها، ويتفرع على هذا أنه لو زادت العطية زيادة متصلة، أو منفصلة فهي للمُعْطى، بخلاف الوصية، فالنماء للورثة؛ لأن الملك في الوصية لا يثبت إلا بعد الموت، ولهذا قال: " والوصية بخلاف ذلك ".
هذه أربعة فروق ذكرها المؤلف، وهناك فروق أخرى كنت قد كتبتها زيادة على ما ذكر فمنها:
الفرق الخامس: اشتراط التنجيز في العطية، وهذا ربما يؤخذ من قوله: " ويعتبر القبول لها عند وجودها "، وأما الوصية فلا تصح منجزة؛ لأنها لا تكون إلا بعد الموت، فهي مؤجلة على كل حال.
الفرق السادس: الوصية تصح من المحجور عليه، ولا تصح العطية.
مثلاً: رجل عليه ديون أكثر من ماله، مثلاً عليه عشرة آلاف ريال، وماله ثمانية آلاف ريال وحجر عليه، فلا يمكن لأن يعطي أحداً من هذه الثمانية، لأنه محجور عليه، فهذه العطية تبرع يتضمن إسقاط واجب، والتبرع الذي يتضمن إسقاط واجب غير صحيح، لكن لو أوصى بعد موته بألفي ريال فإنه يجوز، والفرق أن الوصية لا تنفذ إلا بعد قضاء الدين، وليس على أهل الدَّين ضرر إذا أوصى بشيء من ماله؛ لأنه إذا مات الميت، نبدأ أولاً بتجهيزه ثم بالديون التي عليه ثم بعد ذلك بالوصية.
إذاً الوصية تصح من المحجور عليه والعطية لا تصح، والفرق أن العطية فيها إضرار بالغرماء والوصية ليس فيها إضرار؛ لأنها لن تنفذ إلا بعد قضاء الدين.
وهل تصح من المحجور عليه لسفه؟
المحجور عليه لسفه إما أن يكون صغيراً، وإما أن يكون مجنوناً، وإما أن يكون بالغاً عاقلاً لكنه سفيه لا يحسن التصرف، أما الأول والثاني فلا تصح وصيتهما ولا عطيتهما؛ لأنهما لا قصد لهما ولا يعرفان الوصية والعطية.
وأما الثالث ففيه قولان: قال بعض أهل العلم: تصح وصيته؛ لأنه إنما حجر عليه لمصلحة نفسه وبعد موته لا يضره ما ذهب من ماله إلى ثواب الآخرة مثلاً، لكن في النفس من هذا شيء؛ لأن السفيه لا يحسن التصرف، فأنا أتوقف في هذا.
¥