1 - لقد وجه مكيافللي ضربة قوية للأخلاق المسيحية لأنها بنظره أوهنت من عزيمة الإنسان وأسلمت الدنيا لأهل الجرأة والعنف. ولذلك فهو يفضل الوثنية على المسيحية لأن الوثنية بنظره تمجد الصحة والجاه والقوة وتضفي هيبة على القادة والأبطال، بينما المسيحية تحض على التواضع والضعف. وهكذا بعد ألف سنة من سيادة المسيحية التي رفعت شعاري المحبة والتواضع حين قال المسيح عليه السلام " من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر " يعود مكيافللي ليستعيد مبدأ السوفسطائيين والإغريق عموماً في تكريس أخلاق القوة.
2 - والأساس الثاني للأخلاق عند مكيافللي هو أن الغاية تبرر الوسيلة، ولذلك يجب على الحاكم بنظره أن يكون ماكراً مكر الذئب، ضارياُ ضراوة الأسد، غادراً غدر الثعلب، وأن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير، وأن يحسن استخدام مبدأ فرق تسد، من أجل المحافظة على سلطانه ولكن عليه في نفس الوقت أن يكون ماهراً في إخفاء صفاته المرذولة، بارعاً في الرياء وإظهار الصفات الحميدة، بل وحتى التدين الشديد. [راجع: كافين رايلي " الغرب والعالم " ص 13 وبرتراند رسل " تاريخ الفلسفة الغربية " ص 28].
وأعتقد أن نظرة تأمل في السياسة العالمية اليوم سيجد أنها محكومة بهذه الأخلاق المكيافللية التي تزيد القوي قوة والضعيف ضعفاً ".
هذه الأخلاق الثعلبية المكيافللية اكتملت بعده بقرن من الزمان حين آزرتها ذئبية توماس هوبز 1588 – 1679 فإذا كان مكيافللي قد اجتر من الفلسفة اليونانية أخلاق القوة السوفسطائية وأضاف إليها أن القوة تبرر الوسيلة فإن توماس هوبز قرر أن يجتر من الفلسفة اليونانية الأخلاق الأبيقورية القائمة على مبدأ اللذة، وأضاف إليها الأنانية، وتناول ذلك تحت عنوان الذئبية الإنسانية، فاعتبر الإنسان ذئباً لأخيه الإنسان، فإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب، فالأخلاق يجب أن تقوم على المادة والمنفعة وأخلاق السوق.
[انظر: كافين رايلي " الغرب والعالم " ص 40 وروبرت أغروس " العلم في منظوره " ص 79، 80].
إلا أن أبرز ممثل لأخلاق القوة في الفلسفة الغربية الحديثة هو فريدريك نيتشه 1844 – 1900م والذي اجتمع لديه كل ما كان من تراث فلسفي سابق يحض على القوة ويدعو إليها، بالإضافة إلى تأثره الشديد بنظرية داروين في الانتخاب الطبيعي، والبقاء للأقوى، فطرح نيتشه مبدأ الإنسان الأرقى أو الأقوى واستوحى ذلك من فلسفة زرادشت، واستعان بعلم الأحياء الدارويني، وأُعجب جداً ببسمارك ونابليون.
ويعتبر نيتشة صاحب الإعلان الشهير عن موت الله سبحانه وتعالى، لأن وجود الله سبحانه وتعالى بنظره يحول دون تأكيد الإنسان لذاته، ولذلك كان يقول، لو كان هناك إله فكيف أطيق أن لا أكون إلهاً.
وسخر من الضعفاء والفقراء الذين يحسبون أنهم صالحين، لأنهم لا يملكون مخالب لينشبوها في أعناق الآخرين، وحارب كسلفه مكيافللي المسيحية لأنها تحض على أخلاق الرقيق، وأخلاق العبيد كالحب والتسامح والغفران والتواضع، وقال عن العهد الجديد بأنه إنجيل إنسان من نوع وضيع، وكان مثله الأعلى في الحياة الإنسان المتحجر القلب، المتجرد من العواطف، الذي لا يعرف الشفقة أو الرحمة. وكان يرغب بالقضاء على الملايين من الضعفاء والفقراء والمعوقين، لأنه لا يؤمن إلا بالبطل وبأخلاق القوة كما كان أفلاطون يحلم في جمهوريته المثالية
[راجع: فؤاد زكريا " نيتشه " ص 130 – 40 – 99 – 101 – 102 وول ديورانت – قصة الفلسفة 24 – 526 و برتراندرسل – تاريخ الفلسفة الغربية – ص 401، 403، 398].
وهكذا ففي نظر نيتشه حفنة من القوة خير من كيس من الحق. وإن الضعفاء الذين يُسمون عدم الأمانة خيانة وعار، والقوة ظلم، يعبرون بذلك عن عجزهم وضعفهم وهوانهم. وإن من يريد الحياة يجب أن يسمح لرغباته بالانطلاق إلى أبعد مدى أما الأمانة والعدالة والوفاء فليست من أخلاق الرجال الأبطال، وإنما من أخلاق العبيد. [انظر: ول ديورانت " قصة الفلسفة ": ص 25].
¥