ولكل وجه مسوغ .. ولست هنا لمناقشة كل الآراء، ولكني أذكر هنا موازنة بين كون (رسول) بدلا، وكونه مفعولا لفعل محذوف، أما أن يكون مفعولا لفعل محذوف دل عليه (أنزل) فلا يحتاج إلى مزيد بيان، فكأن الكلام: أنزل ذكرا، أرسل رسولا، ففيه قطع لآية (رسولا يتلو .. ) عن التي قبلها.
أما أن يكون (رسولا) بدلا من (ذكرا) فيحتاج إلى مزيد من البيان ..
فإما أن يكون الذكر هو القرآن والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم، فيكون فيه دلالة على أن الرسول يمثل القرآن ففيه مبالغة، فكأنه صلى الله عليه وسلم لامتثاله ما في القرآن صار ذكرا كالقرآن، فالقرآن ذكر، والرسول صلى الله عليه وسلم لتطبيقه ما في القرآن وتبليغه أيضا ذكر، وفي هذا الوجه لو قيل: (رسولا) عطف بيان لـ (ذكرا) لكان أفضل لأن عطف البيان أو الترجمة كما يسميه الكوفيون لا يستوجب المطابقة الكاملة، وإليه ذهب الطبري، أي جعله عطف بيان.
أما ما استشكله الأخ الأستاذ علي المعشي بتناول الإنزال للرسول صلى الله عليه وسلم فجوابه أن الإنزال قد براد به التهيئة والإيتاء بل والإرسال، كقوله تعالى: (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سواءتكم وريشا) ومعلوم أن الله سبحانه لم ينزل من السماء لباسا على بني آدم، وإنما هداهم لصنعه وعلمهم فكأنه أنزله عليهم ..
وكقوله تعالى: (وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) أي: وأرسلنا معهم الكتاب، فقد تناول الإنزل في هذه الآية الكتاب مع النبيين.
وقال تعالى: وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ..
فتناول الإنزال للرسول صلى الله عليه وسلم جائز في لغة العرب ..
وما ذكرته أولى مما ذهب إليه الزمخشري من حل هذا الإشكال بأن المراد بالرسول هو جبريل، وأبدل من الذكر مبالغة ..
وإما أن يكون الرسول بمعنى الرسالة - وهو وارد في كلام العرب-، فيكون بدلا من الذكر بلا مبالغة أو تشبيه، أي: ذكرا رسالة، وجواب استشكال الأخ علي المعشي بقوله سبحانه بعد ذلك (يتلو) أن فاعل يتلو يعود للرسول المراد به الكتاب أي القرآن أي: أن القرآن نفسه يتلو عليهم، كما قال تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم) فأسند الهدى للقرآن، وكما قال تعالى: (وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس) فأسند الحكم إلى الكتاب لا إلى النبيين ..
فليوازن القارئ الكريم بين هذين الوجهين وليختر ما يشاء .. وفي كل خير بإذن الله ..
مع التحية الطيبة
ـ[أبو تمام]ــــــــ[27 - 12 - 2006, 02:22 ص]ـ
السلام عليكم
بارك الله في الجميع ونفعنا بكم.
أخي الكريم أحمد، لك التحية، وهل ينكر أحد ما ذكرته لنا؟ فعلامَ تعدد الإعراب في الآية الواحدة، وهذه الضجة الكبرى علامَ:):)
أخي الكريم علي، لك التحية، الاجتهاد وارد، والقرآن كما تفضلتم معجز، وإلى الآن لا تزال العقول تقع في كل يوم على شيء جديد، لكن هل يحق لنا أن ننكر معنى أثبته علماؤنا بحجة أنه كلٌ يؤخذ برأيه ويُرد إلا النبي عليه الصلاة والسلام؟ أعني آراءهم التي تلقتها الأمة بالقبول، جيل عن جيل!!
اعلم أن من شروط التفسير معرفة معاني كلام العرب، التي تقصاها العلماء - رحمهم الله - ودونوها في كتبهم التي تعد هي مراجعنا، فإذا أردت أن أفسر ألجأ أولا إلى ما نقله العلماء من معاني للفظة الواحدة أو الآية، وعلى ضوئها أفسر ما أراه، وأدلي بدلوي - وهذا بعيد بالنسبة لي-، وأناقش آراء الآخرين، وعلى زعمك المعنى الذي يُنقل قابل للمناقشة، ونستطيع أن ننكره، وهذا لا يكون، لأنه طعن بمصادرك.
أخي الكريم حينما أوردت الكلام السابق لم يكن على معارضتك للبدل، بل كان لتضييقك معنى الذكر للقرآن، فأنا أسأل أولا: هل اطلعت على التفاسير قبل أن تجيب؟ أم لم لا؟
فإذا اطلعت فتلك مصيبة، وإن لم تطلع فالمصيبة أعظم.
ولا أدري أخي الكريم ماذا تعني بقيل، وقال بعضهم، أتعني صيغ التمريض؟
أظنها مصطلحات خاصة بعلم الحديث الشريف، وليس كل ما وردت هذه الألفاظ دلت على ضعف الرأي، والدليل على ذلك الرأي الذي نقلته عن الطبري- رحمه الله- فقال "بعضهم" ثم رجّح رأيهم، وابن كثير- رحمه الله- لم يشعر بضعف الرأي، بل كأنه رجحه لأنه لم يذكر غيره يقول:"وقوله تعالى: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَـ?تِ ?للَّهِ مُبَيِّنَـ?تٍ} قال بعضهم: رسولاً منصوب على أنه بدل اشتمال وملابسة؛ لأن الرسول هو الذي بلغ الذكر. قال ابن جرير: الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر، يعني تفسيراً له، ولهذا قال تعالى: {رَّسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءَايَـ?تِ ?للَّهِ مُبَيِّنَـ?تٍ} أي في حال كونها بينة واضحة جلية ".
فأين الضعف في قوله، بل هو يقسم الآراء بقوله: قال بعضهم، ليشعر القارئ بأن هناك آراء أخرى.
أما إعراب البدلية فصحيح، ولا غبار عليه، فهو:
1 - يكون بدل كل من كل، لمن يرى أن الذكر هو نفسه الرسول صلى الله عليه وسلم، ويكون الإنزال بمعنى الإظهار، وقد ذكره القرطبي- رحمه الله -.
أو أن يكون الإنزال على حقيقته، وسمي به الرسول صلى الله عليه وسلم لكثرة ملازمته له، ومبالغة، فهو يعمل به، وبطاعة أوامره.
وقد أجاد أخي الكريم الأغر- نفعنا الله به - في توضيح معنى الإنزال.
2 - بدل كل من كل، حذف المبدل منه وناب المضاف إليه منابه، أي: "ذا ذكر رسولا" ثم حذف المضاف وناب المضاف إليه (ذكر) مكانه، ونظير حذف المضاف وإنابة المضاف إليه قوله تعالى:" اسأل القرية"، أي: اسأل أهل القرية.
وهناك أكثر من وجه مشابه لهذا.
3 - بدل اشتمال، إن جعلنا الذكر هو القرآن، وهو مشتمل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن قيل أين الضمير الذي يعود على المبدل منه، يُجاب بأنه قد يحذف الضمير ويقدر، وقد ورد ذلك في قوله تعالى:"قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ ?4? النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ ". أراد ناره، وحذف الضمير.
كذلك قوله تعالى:" من استطاع إليه سبيلا"، وهو بدلا من الناس في أول الآية، وتقديرهم "منهم" فحذفه.
أشكر أخي الكريم الأغر على ما أفادنا به، وأغنانا عن كثير منه ما أردناه، وكثير منه نوّرنا به.
والله أعلم
¥