والانضباط في هذه الطوائف الأربع أكثره في الحنابلة، وأقله في الحنفية، ثم الشافعية، والمالكية أقرب إلى الحنابلة انضباطاً؛ وموجب انضباط الحنابلة: أن كلام الإمام أحمد رحمه الله في مسائل أصول الدين شائع، بخلاف كلام الإمام أبي حنيفة، فإنه ليس شائعاً في هذه المسائل.
وأما أصحاب مالك فيميلون إلى الحنابلة؛
لأنه لم ينتحل مذهب الإمام مالك إمام له شأن وأتباع من المخالفين لأصول السلف أو المائلين عنها،
بخلاف الإمام الشافعي، فإنه وإن كان أصحابه أكثر انضباطاً من أصحاب أبي حنيفة،
إلا أنه لما جاء أبو الحسن الأشعري -وهو شافعي المذهب- تقلد كثير من الشافعية مذهب أبي الحسن،
ولا سيما أن أبا الحسن كان ينتحل مذهب الأئمة المتقدمين، ويصرح بأنه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل (أي: في أصول الدين)؛ لمِا شاع من اختصاص الإمام أحمد بتقرير هذه المسائل، وبسبب ظهور أبي الحسن الأشعري كثر في الشافعية الغلط والمخالفة لأصول السلف.
القسم الثاني: من انتحل مذهباً انضبطت مخالفته لمذهب السلف -أي: معروفاً بالمخالفة زمن الأئمة- سواء كان هذا مذهباً متقدماً، أو كان مذهباً طرأ بعد القرون الثلاثة الفاضلة، وهذا يقع فيه خلق مِن الأحنافِ، والشافعيةِ، والمالكيةِ، وقليلٌ من الحنابلةِ، ولا سيما في أصحاب أبي حنيفة؛ فإن طائفة منهم انتحلوا الاعتزال مذهباً في أصول الدين، وإن كان هذا القسم من أصحاب الأئمة كثير منهم يكون ميلهم عن طريقة إمامهم [هو] بانتحال مدرسة أو مذهب نشأ بعد القرون الثلاثة الفاضلة. وأخَصُّ مدرسة حصل بموجبها الغلط هي: مدرسة الإمام أبي الحسن الأشعري؛ فترى كثيراً من الشافعية، والمالكية، وطائفة من الأحناف، على مذهب أبي الحسن الأشعري في مسائل أصول الدين، ومذهبه فيه موافقة للسنة والجماعة وفيه مخالفة، ولكن أصحابه من بعده كالقاضي أبي بكر الباقلاني ومن بعده الجويني ابتعدوا عن طريقته إلى طريقة مقاربة لطريقة قوم من المعتزلة، ولذا فإن المتأخرين من الأشاعرة أبعد عن أصول السنة والجماعة ومقالاتهم من الأشعري نفسه، فإن طريقته مقاربة في كثير من مواردها لطريقة السلف، مع ما عنده من الغلط والمخالفة للإجماع. ثم جاء المتأخرون -كمحمد بن عمر الرازي وأمثاله- الذين خلطوا مذهب الأشعري بأصول من الفلسفة، وكلامِ ابن سينا، وشيءٍ من كلام المعتزلة، إلى غير ذلك، فصارت مدرسة الأشعري في طورها الأخير -ولاسيما بعد أبي المعالي الجويني- مباعدةً لطريقة الأشعري نفسه، فضلاً عن مباعدتها لطريقة السلف.
القسم الثالث: وهم خلق من أصحاب الأئمة الأربعة غير منضبطين على أصول الأئمة، ولا ينتحلون مذهباً من المذاهب الكلامية كمذهب الماتريدي أو مذهب الأشعري أو غير ذلك، وإنما هم قوم ينتحلون أصول الأئمة، ويعرفون جملهم، ويعظمون السنن والآثار، ويذمون البدع، ولكنهم إذا أخذوا في تفصيل هذه الجمل غلطوا في بعض مواردها. وموجب هذا الاختلاط: أنهم أخذوا بالأصول التي عرفت عن الأئمة، لكن لكون طائفة ممن يشاركهم في الانتماء للمذهب الفقهي لهم اتصال بمدرسة كلامية كالاعتزال، أو الماتريدية، أو الأشعرية، أو غيرها؛ صار عندهم تأثر بهؤلاء = فيدخل على طريقته شيء من المقولات والتأويلات الكلامية. وهؤلاء ما بين مستقل ومستكثر، وهذا الصنف يكثر في الحنابلة أكثر من غيرهم، كابن عقيل وقبله القاضي أبو يعلى، وكذلك التميميون من الحنابلة، وأمثالهم، هم من أهل هذه الطريقة، بمعنى أنهم متأثرون بشيء من الغلط في مسائل أصول الدين، لكنهم من حيث الجملة على أصول الأئمة. انتهى.
قلت: ومن أسباب انضباط الحنابلة على ما كان عليه السلف أيضا:
أنّ كثيرا منهم كانت صنْعتُه علم الحديث،
وقليلٌ منهم من كان من أرباب علم الكلام،
والبلاء في العقائد جله من آثار علم الكلام - الذي هو خليط من قواعد فلسفية مع شيء من القواعد الشرعية_.
ـ[طويلبة شنقيطية]ــــــــ[17 - 12 - 10, 09:40 م]ـ
ماشاء الله!
جزاكم الله خيرا وجزى مشائخنا الحنابلة خيرا
أكمل بارك الله فيكم
ـ[الحارثي ابوسهل]ــــــــ[17 - 12 - 10, 11:05 م]ـ
بارك الله فيك، فوائد حسنة
الشيخ علي الهندي رحمه الله له رسالة طبعت عدة مرات بعنوان رسالة في بيان بعض مصطلحات الحنابلة فيها العديد من الفوائد في المذهب واصطلاحات الكتب وبيان الخلاف فيه والترجيح فيه وغير ذلك من الفوائد الحسنة.
يحسن ذكرها والرجوع إليها.
وهي فوائد إلتقطها الشيخ من كتب المذهب ومما أملاه عليهم الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن مانع رحمه الله
ـ[أبو يوسف الثبيتي]ــــــــ[18 - 12 - 10, 01:01 ص]ـ
موضوع رائع , واصل بارك الله فيك.
قال حنبلي:
الحنبليون قوم لاشبيه لهم ... في الدين والزهد والتقوى إذا ذكروا
أحكامهم بكتاب الله مذ خلقوا ... وبالحديث وما جاءت به النذر.
ـ[أبو عبد الله التميمي]ــــــــ[18 - 12 - 10, 04:17 م]ـ
قلت: ومن أسباب انضباط الحنابلة على ما كان عليه السلف أيضا:
أنّ كثيرا منهم كانت صنْعتُه علم الحديث،
وقليلٌ منهم من كان من أرباب علم الكلام،
والبلاء في العقائد جله من آثار علم الكلام - الذي هو خليط من قواعد فلسفية مع شيء من القواعد الشرعية_.
فائدة: قال الحافظ ابن رجب -في ترجمة ابن الجوزي-:
ومع هذا فللناس فيه [يعني ابن الجوزي]- رحمه اللّه- كلام من وجوه.
[الى ان قال:] ومنها- وهو الذي من أجله نقم جماعة من مشايخ أصحابنا وأئمتهم من المقادسة والعلثيين- من ميله إلى التأويل في بعض كلامه، واشتد نكرهم عليه في ذلك.
ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب مختلف، وهو وإن كان مطلعًا على الأحاديث والآثار في هذا الباب، فلم يكن خبيرًا بحل شبهة المتكلمين، وبيان فِسادها.
وكان معظمًا لأبي الوفاء بن عقيل يتابعه في أكثر ما يجد في كلامه وإن كان قد ورد عليه في بعض المسائل.
وكان ابن عقيل بارعًا في الكلام، ولم يكن تام الخبرة بالحديث والآثار. فلهذا يضطرب في هذا الباب، وتتلون فيه آراؤه. وأبو الفرج تابع له في هذا التلون.
¥