1 ـ لا تناقض بين الأمرين، ولا تعارض بين أصلين، فقد قلت: لا نضيع الجهود في الإعادة والتّكرار، إذا لم يقم موجب واضح كالنّهار، ومسوّغ مقنع لذوي الاعتبار، وقد ذكرنا لك ـ لو كنت تعقل ـ موجبات، وحشرنا قِبَلَك مسوِّغات. وفعلنا من جهة أخرى تحقيقا سرّ ذوي المروءات، وأحزن أهل القيل والقيلات. فأين التّناقض يا حمادو، وأين التّعارض عند من شادوا وسادوا.
2 ـ المتقرّر عند أهل العلم أنّه إذا تعارض قول وفعل وجب المصير إلى أحد أمور هي:
أ ـ الجمع بينهما بوجه من أوجه الجمع المعتبرة.
ب ـ التّرجيح بينهما بوجه من أوجه التّرجيح العديدة.
ج ـ الصّيرورة إلى القول بالنّسخ إذا تعذّر الجمع أو التّرجيح وعرف المتقدّم من المتأخّر.
أمّا الجمع فقد ذكرناه، وأمّا التّرجيح فقد عرفناه، إذ القول شريعة عامّة، والفعل يحتمل النّسخ عند الخاصّة لا العامّة، وقد قلتُ قولا، وفعلت فعلا، فقدّم القول الدّال على العموم، ودع عنك الفعل المحتمل للخصوص بلا غموم. وأمّا النّسخ فقولي في الملتقى، متأخّر عن تحقيقي للخطبة والمقتفى.
أقول كلّ هذا تنزّلا في المباحثة، مع من يرمي أخاه بالمعابثة، وإلاّ فلا تعارض يا صديق، ولا تناقض يا رفيق، ففعلي موافق لكَلامي، فلا ترم أخاك بالظّلم والكُلامِ، وكن من أهل الكِلام لا الكَلام، وراجع المثلّثات في مذاكراتك يا همام.
27 ـ قولك: " وتكلّفك ما أنت منه عار " أقول ـ كاشفا لعارك، وطاردا لك من غارك ـ:
1 ـ لقد تكلّفتَ ـ يا حمادو ـ ما أنت عنه عار، وتقمّصتَ شخصيّة المحقّق وأنت مجرّد كتبيّ معثار، لابس ثوبَ زور مُعَار، خارج من فيك فحش كلام كالبِعَار، رافع صوتك بالصّياح والنُّعار، كأنّك مصاب بالجُنون والسُّعار.
رميت أخاك بالعُري وأنت به أولى، فقد عرّيت ذقنك، وحلقتَ لَحْيَك، ولبست ثوبا إفرنجيّا، فوصف عورتك وصرت عريّا زنجيّا.
2 ـ التّكلّف ـ يا كتبيّ ـ له عند أهل اللّغة ثلاث معان:
1 ـ تكلّف الأمر أي تعرّض لما لا يعنيه.
2 ـ أو تجشّمه على مشقّة فيه.
3 ـ أو حمله على نفسه وليس من عادته.
أما أنا فأقرّ أنّ كتاب أبي شامة يعنيني، كيف لا وقد اهتممتُ به من زمان، وأشدتّ به في كلّ مكان، وحقّقته بكلّ أمان، ونشرت المقتفى للخلاّن، وقفّيته بالخُطبة بحبّ وحنان، فهذا تكلّفي يا إنسان، وجهدي بالبَنان لا بالبَنان.
أمّا التّجشّم والمشقّة، فيعلمها منّي كلُّ الرّفقة، حيث تركت " الحُومة والزّنقة "، ومشيتُ في الطّين و" الغَرْقَة "، وكنتُ أهلَ العلم ألقى، وبغبار المخطوطات أُسْقى، أليس ذا شأن من إلى المعالي يرقى، إن كنت ترجو ما يبقى.
أمّا الثّالث فقد حملتُ على نفسي ما هو من عادتي، فحقّقتُ قبل الخطبة أعلاقا، ونشرت أوراقا، فكانت الخطبة على الجادّة، وتكلّفنا لها الغالي من الجهد والمادّة.
أمّا أنت ـ يا كتبيّ ـ فلم نر لك من قبل نشرة، سوى عطسة ونسرة، وتكلّفت أمرا لا يعنيك، ونسخت فرعا لا يغنيك، ويهدمك ولا يبنيك، ولو جرّدنا تصحيفاتك، وحررّنا تحريفاتك، لعلمتَ حينها من تكلّف ما هو عنه عار، وتجشّم ما هو له ضارّ غير سار.
28 ـ قولك: " وما عبّرتَ عنه بقصور نظرك فيه إنّما هو مكر مكرتموه في المدينة " أقول ـ فاضحا لمكرك، وفاضخا لسكرك، وناضحا لنكرك ـ: ما كتبه أخوك في الملتقى من أخبار المحقّقين، أمر أثنى عليه جمع من النّابهين، وحقّق مصلحة علميّة واضحة بمعرفة ما حقّقه جمع من الأخيار الميامين، فكيف تصف أخبار إخوانك، وآثار خلاّنك، بالمكر لو كنت من المهتدين، أو درجت على شيم الصّالحين، وتزجّ باسم مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مسيئا للأدب، كما أسأتَ من قبل بذكر ساكنتها أمّ المؤمنين عائشة ذات الفضل والرّتب، هلاّ قلتَ: بكّر فاضل من أهل المدينة وما مكر، ولخطبة أبي شامة نشر، واعتمد نسخة المقدسي المشتهر، واستأنس بفرعي وشكر، لكن أنّى لك مثل هذا الأسلوب، وأنت قاصر النّظر ملىء العيوب، وعلى التّراث محسوب، ومذموم غير مرغوب، وماكر غير محبوب.
¥