"ولاشك أن التاريخ مرَّ في تأليفه بثلاث مراحل: فقد كان في أول الأمر في خمسمائة وسبعين جزءاً، أي أنه كان في سبع وخمسين مجلدة. فلما وصل العماد الأصبهاني إلى دمشق في سنة اثنتين وستين وجد الحافظ قد صنَّف التاريخ "وذكر الحافظ أنه في سبعمائة كراسة، كل كراسة عشرون ورقة" ومعنى ذلك أنه صار سبعين مجلدة. ثم ازدادت أجزاء التاريخ، وإذا بابنه القاسم يقول: "والنسخة الجديدة ثمانمائة جزء". وقد بيّضه القاسم بخطه في ثمانين مجلدة.
ثم أعادها مع بعض زيادة في دائرة معارف البستاني6، إذ جعل جزء النسخة الثمانينية عشرين ورقة، وعزا التجزئة الأخيرة إلى أبي القاسم نفسه.
ورحلت فكرة المراحل الثلاث هذه، فاستفادها المستشرق الأستاذ "إليسييف" في مقدمة كتابه: "وصف مدينة دمشق"7 ثم كررها في ترجمته لابن عساكر في الموسوعة الإسلامية الجديدة8.
أما الأستاذ محمد كرد علي، رحمه الله، فقد حسب أن التجزئة الثمانينية من عمل المصنّف، فقال في تصديره للمجلدة الأولى من التاريخ9: "حافظ المجمع على تجزئة المصنف، وسيكون التاريخ في ثمانين مجلدة، كل مجلدة في عشرة أجزاء من الأصل".
-وعلى المنوال نفسه نسج الأستاذ الدكتور شكري فيصل في مقدمته لمجلد (عاصم –عايذ) 10، إذ اعتمد التحريف الوارد في نص الخريدة، فأعاد ذكر السبعمائة كراسة، وجعل التجزئات ثلاثاً، واعتبر جزء النسخة الثمانينية عشرين ورقة.
هذا ما كان من أمر الأوهام سابقة ولاحقة، ولابد في معالجتها من بيان أمر التجرئة في الكتاب على حقيقته فنقول:
للتاريخ تجزئتان فحسب: تجزئة المصنف، في خمسمائة وسبعين جزءاً، كل جزء في عشرين ورقة.
ثم تجزئة ابنه القاسم في النسخة المستجدة، ثمانمائة جزء، كل جزء في خمس عشر ورقة.
والفرق بين التجزئتين فرق تجليد فحسب، أما عدد أوراق التاريخ فمتقارب: (خمسمائة وسبعون) في (عشرين) تساوي أحد عشر ألفاً، وأربعمائة ورقة. (ثمانمائة) في (خمسة عشر) تساوي اثني عشر ألف ورقة.
إن هذا الذي قلناه، هو ما نطقت به الأصول المخطوطة للتاريخ، لم تتخلف عنه قط في كل مواضع التجزئة التي اطلعت عليها من التاريخ.
وهذا الإمام البرزالي، الناسخ الأوثق للتاريخ يقول في ختام بعض الأجزاء11:
"آخر الجزء السابع والخمسين بعد المائتين من الأصل. وهو آخر المجلدة الرابعة والثلاثين من تجليد النسخة المستجدة." فأوضح بصريح العبارة أن الفارق بين الأصل والنسخة المستجدة إنما كان أمر تجليد12.
وكيف يصح هذا المذكور في الخريدة من أمر السبعمائة كراسة؟ بل كيف يصح فرض المراحل الثلاث بناء على ذلك؟ وقد دخل العماد الأصبهاني دمشق في شعبان من عام (خمسمائة واثنين وستين)، وفي آخر جمادى الأولى من العام نفسه13 - أي قبل وصول العماد بشهرين- كان التاريخ قد جاوز ثلثه. أعني قد بلغ آخر مجلد (عاصم-عايذ) قراءة وسماعاً على الملأ في جامع بني أمية؟ وهذا المجلد مطبوع، ليس فيه ولا في أصوله أية إشارة إلى السبعمائة المزعومة؟
وهذا هو المجلد الثالث والخمسون بآخر الكتاب، وفيه حرف الياء [من يحيى –إلى يزيد] ينتهي عند هذين الرقمين: "الجزء الثلاثون بعد الخمسمائة من تجزئة الأصل- والسابع والأربعون بعد السبعمائة من تجزئة الفرع". وإذن فقد بقي (أربعون جزءاً) فحسب من تجزئة الأصل، يقابلها (ثلاثة وخمسون) من تجزئة الفرع، ليبلغ الكتاب غايته. وهذا هو القول الفصل في التجليد الكامل للأصل والفرع من تاريخ دمشق الكبير.
ولو أردنا تطبيق تجزئة الثمانين مجلداً على المطبوع من تاريخ دمشق لوجب أن نسمي المجلدة الأولى وبعض الثانية فحسب: المجلدتين الأوليين. وأن نسمي المجلدة العاشرة: المجلد الثالث عشر.
يؤيد هذا ما ذكره الأستاذ محمد أحمد دهمان في حاشية الصفحة (مائتين واثنتين وثلاثين) من المجلدة المذكورة، قال: إنه وجد في هامش نسخة الأصل هذه العبارة:
"آخر الحادي والعشرين بعد المائة".
قلت: ومعنى هذا أنه (آخر الجزء الأول من المجلد الثالث عشر) بتجزئة القاسم للنسخة المستجدة.
والظاهر أن النسخة الجديدة بتجزئتها الجديدة، إنما صنعت بعد وفاة المصنف، إذ نجد أول ذكر لها في سماع للجزء الرابع من المجلدة الأولى14 يرجع تاريخه إلى سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وقد سُميت النسخة المستجدة فيه بـ "الفرع المنقول عن هذا الأصل".
¥