إن هذه المقطوعة النثرية الأدبية: (وليت مصنف هذا الهذيان، تنكب عن ميدان الفرسان ...... إلخ) التي نثرها الشيخ الحويني كثيرا في كلامه المكتوب والمسموع! كنتُ أولَ ما وقفتُ عليها أستبعد أن تكون من نتاج الشيخ ونظمه!
وأنا خبير بلغة الشيخ جيدًا! بحيث كنتُ كلما وقفت له على كتاب أكلتْه أكلا! ثم شربتُ عليه ماء الحفظ والمعرفة! وكذا لا أملُّ من الاستماع إلى أشرطته حتى الساعة!
فأسلوب الشيخ ونهجه ولغته: صار لي قدرة طيبة على استحضار كل ذلك في ذهني، فمتى دعيتُه أجابني، وكيفما أطلبه حضَرَني!
فلما كنتُ أكتب في مقدمة (تأويل مختلف الحديث / لابن قتيبة) وأنا بصدد الرد على أهل البدع والأهواء، دهمتْني تلك المقطوعة النثرية الأدبية التي كنتُ قد سمعته قديمًا من الشيخ - شفاه الله وعافاه - في بعض مجالسه، حتى كنت أحفظها عن ظهر قلب، وهي في صدري بحروفها حتى الآن!
ورأيتُ أنها مناسبة جدًا كيما تُوضع في هذا المكان من مقدمتي على الكتاب المذكور!
وأليَّةً بالله: أنني لم أكن أتعمد تسطير تلك المقطوعة ريثما أتعقب فيها الشيخ البتة!
وإنما وقع ذلك الأمر اتفاقًا، أو كما في المثل السائر: (وافق شنٌّ طَبَقَة، وافقه فاعتَنَقه!).
ولمَّا كان من عادتي: توثيق النقول والأخبار، فإني طفقتُ أبحث عن توثيق تلك المقطوعة حتى أعياني البحث عن مصدرها! وضللت سبيل الاهتداء إلى قائلها!
حتى وقفتُ على تقريظ الشيخ - شفاه الله - لكتاب: (صلاح الأمة في علو الهمة /للعفاني) فإذا هو قد ساقها برمتها ولم يترك منها حرفًا!
فجعلتُ أنظر يمينًا وشمالا علَّني أجد الشيخ قد نصَّ على مصدرها في مطاوي حديثه! فلم أعثر على ذلك!
فقلت: ربما قام الشيخ بتوثيقها بالهامش! فذهبت هناك حيث لا هناك! ثم عدت بـ (خُفَيِ حُنين)!
ووقتذاك قلتُ في نفسي: لا بأس من التنبيه بالهامش على ما كان ينقدح في قلبي – كاليقين - من كون تلك المقطوعة الأدبية الرائقة ليست ممن سطرها الشيخ بمحابر بنانه، ولا هي ممن زبرها بأسِنَّة أقلامه!
لكن قد بدا لي أن هذا التنبيه: كان مفتاح شر على نفسي! حيث أساء البعض الظنون بي! وأنني أتحامل على الشيخ! أو ربما أسعى للتشفِّي! وأنتهض للتعدَّي!
وعاتبني بعض أصحابنا في ذلك، وأنكر عليَّ ما وقع لي هنالك!
وساعدهم على تلك الظنون الآثمة: أنني لم أذكر البرهان على أن تلك المقطوعة ليست من نظم الشيخ! وأنه لم يكن في يدي وقتها سوى دعوتي! وهي غير ناهضة بحجَّتي!
غير أني كنتُ أتدافع عتابهم، وأتلاشى نقدهم، بل وأُصرُّ على الدعوى! وأزعم أن اللائمة بغيري هي الأولى والأحرى!
وزاد من بلائي: أن بعض الناشرين قد رفض طبع الكتاب! لأجل ما وقع لي مع الشيخ في هامشه من العتاب!
وتفاقمت همومي: عندما أخبرني عبد الخالق الكُتْبي – وهو أحد الكُتْبيين ممن أختلِف إليهم بالقاهرة – أن بعضهم أخبره أنه ذكر للشيخ الحويني ما انتقدتُه عليه في هامش الكتاب! فما كان من الشيخ إلا أنْ قال بيده هكذا! كأنه غير مكترث بصحة هذا النقد! أو كأنه يرى الناقد ممن لا يستحق عناء الرد!
هذا:وأنا لا أفتر كل يوم في البحث والقراءة للوقوف على القائل الحقيقي لتلك المقطوعة النثْرية؛ حتى أدْرأ ظنون السوء عني، وأُسْكِت الألسنة التي نال بعضها مني!
لكني لم أظفر بشيء! لقلة مصادري، وعظيم انشغالي بمورد رزقي!
غير أني لم أفقد الوثوق بنفسي طرفة عين – ولله الحمد – إلى أنْ طال كدّي، وضعف أخْذي مع الأصحاب وردِّي!
وما تزال الآمال – بالظفر بالمطلوب - تُوعدُني وتُمَنِّيني، وبواعث الأحزان تنْشُرني وتطْويني.
حتى كان يوم من الأيام ........
تابع البقية ....
ـ[أبو المظفر السِّنَّاري]ــــــــ[11 - 12 - 09, 04:25 م]ـ
حتى كان يوم من الأيام: ذهبتُ إلى سوق الكُتْبيين، وجلست إلى بعضهم، وجعلت أسأله عن جديد ما عنده من الكتب؟ فأشار لي إلى مجموعة ضخمة جاءتْه قريبًا، ثم تركني وإياها، تصارعني بكنوزها فأصرعها! وتزاحمني بالمعارف فلا أشبع منها! وكأني أُحاكي بصنيعي هذا أبا الفرج ابن الجوزي إذ يقول عن نفسه: «وإني أُخْبِر عن حالي: ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابا لم أره فكأني وقعت على كنز؟!».
¥