قلتُ لبيكِ إذ عادني لك الشو = ق وللحادين كُرّا المَطِيّا
ولا أدلّ على تذوقه للشعر، وحفاوته بروائعه، من تلك المحاضرة التي أدارها على أبيات أم ثواب الثلاثة، فنَفَذَ فيها إلى أعماقها، واستخرج خَبْأَها، وحلّل قصدها، ونشر دُرَرَها، ووقف عند كل كلمة فيها ناقداً ومحللاً .. وفاهماً ومفهِّماً، فأبدع لعمري أيّما إبداع، وجعلها تحت عنوان "مأساة أم ثواب بولدها:
ربيتُهُ وهو مثلُ الفرخِ أعظَمُهُ= أمُّ الطعام ترى في جلده زَغَبا
حتى إذا آضَ كالفحّال شذّبه = أبّارُه ونفى عن متنه الكُربا
أنشا يمزّق أثوابي يؤدبني= أبعد شيبي تبغي عندي الأدبا
الصيدواي والأفغاني
وتعود بي الذاكرة إلى أول عهدي بالأستاذ الصيداوي، إذ تعرفت إليه في بيت أستاذ أساتيذنا وشيخ النحاة في عصرنا الأستاذ سعيد الأفغاني، وكان الصيداوي حفياً به ملازماً له، لا يكاد يبرح مجلسه الذي ينعقد كل مساء أربعاء في منزله بسفح جبل قاسيون، ويحضره الأستاذ الدكتور مكي الحسني والمهندس الباحث محمد خير البارودي، وهناك انعقدت أواصر المحبة والمودة مع الأستاذ الصيدواي، واتصلت أسبابي بأسبابه، وصرت واحداً من أصحابه.
وكان الرجل ملء السمع والبصر، فقد عرفه الناس وألفوه بإطلالته المحبَّبة طوال أحدَ عشر عاماً في برنامجه المشهور "اللغة والناس" وهو برنامج بدأ يومياً وانتهى أسبوعيَّاً تناول فيه كثيراً من مسائل اللغة وقضايا العربية، وكان يحتشد له ويعنى به، ثم إنه أخرج مئة من حلقاته في كتاب حمل العنوان نفسه "اللغة والناس". ومن طريف ما حدثنا به أن فتاة رأته في ذلك العهد فحيّته قائلة: أهلاً بلغةٍ بلا ناس فرد عليها على الفور: أهلاً بناسٍ بلا لغة.
إن أنس لا أنسَ مجلساً ضمنا في منزله مع الأستاذ سعيد الأفغاني عرضنا عليهما فيه برنامج النظام الصرفي للعربية بالحاسوب ـ وهو نظام كان لي شرف المشاركة فيه مع الأستاذ مروان البواب والدكتور يحيى مير علم والدكتور محمد مراياتي ـ وكان لقاء غنياً مفيداً خرجنا فيه بملاحظات دقيقة وفوائد فريدة أتحفنا بها كل من الأستاذين، وطال اللقاء وحضرتنا صلاة المغرب، ودفعت إلى الإمامة دفعاً، فلما قضيت الصلاة، علّق الصيداوي مثنياً على قراءاتي وتجويدي، فذكرت له أني تلقيت التجويد عن أربابه وفي مقدمتهم شيخنا المقرئ الشيخ بشير الشلاح رحمه الله فبادرني قائلاً: ذاك شيخي وعليه أخذت القراءة والتجويد بادئ أمري إذ كنت أقصده يومياً لأسمِّع صفحة من القرآن بدفع من والدي وتوجيه من العلامة الشيخ محسن الأمين رحمه الله فقلت له: أن حصحص الحق يا سيدي فقد كنت سمعت من الشيخ بشير ما يؤيد هذا الذي تقول لدى أول ظهور لك على شاشة التلفاز فظننت أن الشيخ واهم لبعد ما بينكما فإذا بي أنا الواهم!
النحو لا يعلم اللغة:
كان الأستاذ الصيداوي معلماً مفْتَنّا، ومربياً خبيراً، قضى في تعليم العربية شطر عمره، وخلص من تجربته الطويلة إلى نتائج مهمة وخطيرة، من أهمها في نظري: أن النحو لا يعلم اللغة وإنما يعلِّمها نصوصها، وفي هذا يقول:
"من كان يريد أن يحسن اللغة، فسبيله استظهار روائعها، لا قراءة النحو واستظهار مسائله! كل كتب النحو، كلها كلها، من كتاب سيبويه فنازلاً، لا تعدل في موازين إحسان اللغة مثقال ذرة من:) وهي تجري بهم في موج كالجبال، ونادى نوح ابنه، وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (([2]).
ثم يقول: "إن إحسان اللغة، إنما يكون في مصاحبة القرآن والحديث ونهج البلاغة، وديوان زهير وجرير والفرزدق والأخطل، وبشار وأبي العتاهية، وأبي تمام والبحتري والمتنبي، وفي ملازمة الجاحظ، وأسألك بالله أن تستمسك بكتب الجاحظ، فإنها ينبوع لغة وأدب لا ينضب، وفي ملازمة الأغاني فإنه مدرسة لطواعية المفردات، في مواضعها من جزل التراكيب .. " ([3])
ومن ثم كان ينصح بتحفيظ الأطفال نصوصاً من الشعر المأنوس السهل كتلك القصائد التي أدارها شوقي على ألسنة الحيوانات فكانت نموذجاً رائعاً للإيقاع العذب والمضمون المعبِّر وكثيراً ما ذكر لنا أنه حفّظ ولده تماماً بعضاً منها كتلك التي تتحدث عن محبة الوطن:
عصفورتان في الحجاز = حلَّتا على فَنَن
مرَّ على أيكهما= ريح سرى من اليمن
* * * *
هب جنة الخلد اليمن= لا شيء يعدل الوطن
وقد جربت ذلك مع أولادي فأتى أكله على خير وجه ولله الحمد.
¥