[أبواب الجنان، وموقع أدبي جديد]
ـ[محمد خليل الزروق]ــــــــ[30 Mar 2010, 01:42 م]ـ
أبواب الجنان
من أين أدخل؟
لا بأس عليك، إنها أبواب كثيرة، من أيها دخلت أجزأك، وأوصلك إلى بغيتك، ونفذ بقلبك إلى قلب هذه الحدائق.
فاتساعها، وتباعد أطرافها، وبُعد مداها - يهوِّن عليك الدخول من أقرب مَوْلِج، والاكتفاء ببعض عن بعض.
ولا يهُولَنَّك هذا الاتساع فتزهدَ في الدخول، فإنه ما من داخل أمكنته الإحاطة، فرأى كل شيء، وذاق كل طعم، وسمع كل نغم، ولكنهم يستدلون بما بلغوا على ما لم يبلغوا، وبما أدركوه على ما فاتهم، ويؤمِّلون إن كان في العمر باقية، وفي الزمن اتساع، أن يستزيدوا ما وسعتهم الاستزادة، وأن يغترفوا على قدر آنيتهم، ويستوعبوا على قدر مسيل أوديتهم.
* * *
هذا باب قديم، ليس بِمُعرق في القدم، ولكنه كان مَوْلج كثيرين رغَّبهم وحبَّبهم، وأخذ بأيديهم وعرَّفهم، لا سيما في عهود الصبا، وأيام الشبيبة، والعواطف مشبوبة، والأوتار مشدودة، والخيال مشيَّدةٌ مبانيه، والقلب مضطربة معانيه، يخفق للطيف، ويُشغَل بالأمل، ويُشعل بالوهم، ففرحُه طائر، وحزنه آسر، وحبه حائر.
إنه باب مكتوب عليه: مصطفى لطفي المنفلوطي، يغلب عليه الحزن والتفكر، ففيه مع كل عِبرة عَبرة، ومع كل فكرة فَترة، ومع كل نظرة حسرة، فأنت مع (النظرات) في (عَبَرات)، ومع الكلمات في أنات، وإذا قص عليك قَصص المآسي والأحزان، أبكى وأشجى، وإذا روى لك أحاديث البيان، وصف واستقصى، فيعلمك مع سهولة القالب رقة القلب، ومع نقاء الديباجة إرسال الدمعة.
* * *
وليس ببعيد منه باب كبير، ومَشْرَع واسع، باب مكتوب عليه: أحمد حسن الزيات، من معالمه تعرف أنه صاحب (رسالة)، وكاتب مقالة، أنشأ نهضة واسعة، ومجلة جامعة، يكتب فيها المصري والمغربي، ويتحاور فيها الشامي والعراقي.
كان في أسلوبه نظام وإحكام، مضبوط بمقاييس، وموزون بموازين، كأنما هو خريطة هندسية، أو خطة عسكرية، وقد حكى عن نفسه أنه إذا كتب سد أذنيه بالقطن، حتى لا يسمع صوتًا، وحتى لا ينحرف له خط، ولا يضطرب له رسم، ولا تند عنه كلمة. الدخول من هذا الباب يعلمك محاسن المقابلة، وتتمرن بمحاكاته على الرصف والمزاوجة، ولا تلبث بعد زمن أن تعلم أنه نمط أثير، وأسلوب شائع، وطريقة غالبة، ولك بعد ذلك أن تأخذ منه، وألا تكتفى به.
وأما مجلته التي ذكرتُ فمجلس لا يُسأم، وحديث لا يمل، سال في أنهرها مداد الأدب، وبدا فيها بدائه الشعر والنثر، وبدائع الفكر والفن، وتَحارَب على صفحاتها المختلفون بلا سيف ولا صوت، وتصارعت في فصولها الأفكار بلا غلَب ولا موت،، وأظهرت أدباء لم يُعرفوا، ثم عرفوا، وجدَّد فيها شيوخٌ من أساليب الصنعة ما لم يألفوا، ثم ألفوا، فكانت في تاريخ الفن نُقلة، وبين ماضيه وحاضره وُصلة.
* * *
وباب آخر عليه وقار ومهابة، ولصاحبه فحولة وأصالة، وله في قلوب أهل المذهب تبجيل وجلالة، لم يزل ممثلاً للعزة الإسلامية، والنخوة العربية، يخوض المعارك (تحت راية القرآن)، ويجوب المسالك بصدق أهل الإيمان. كلامه في تفكُّره وتدبره، وقلمه في (وحيه) ونحوِه، وعِلْمه (بآداب العرب)، وتصرُّفه في فنون الأدب - كأنما هو تنزيل من التنزيل، أو قبس من نور الذكر الحكيم.
كان شديدًا على الطاعنين، اللابسين لبوس البحث والأدب ليصلوا إلى حياض الدين، مُرُّ السخرية، واسع الحيلة، بعيد الغور، عميق الفِكْر، طويل النفَس. حكوا عنه أنه كان يحمل قُصاصات من الورق يشقِّق فيها الفِكَر، ويفتِّق فيها الصور، فربما عسُر على الناظر من أول لمحة فهمُ ما يريد، فإذا تأنَّى قليلاً ظهر له مرماه البعيد. يعدّه بعضهم زعيم قصيدة النثر، وإن لم يسم ذلك باسم القصيدة أو باسم الشعر. وكان شاعرًا أول أمره، فنسي الناس بما أذهلهم من ترسُّله ونثره، ما كان عرض عليهم من قبل من دواوين نظمه وشعره.
الدخول من هذا الباب يعلمك كيف تجتمع جزالة العبارة وحداثة المعنى؟ وكيف يُنحت تمثال الخيال؟ وكيف يُستنبط ماء المجاز؟ إنه باب مكتوب عليه: مصطفى صادق الرافعي.
* * *
¥