تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[خلوصي]ــــــــ[06 Jun 2010, 06:51 م]ـ

الرجاء الخامس

في بداية شيخوختي ومستهلها، ورغبة منّي في الانزواء والاعتزال عن الناس، بحثَت روحي عن راحة في الوحدة والعزلة على تل ((يوشع)) المطل على البسفور. فلما كنت – ذات يوم – اسرح بنظري الى الافق من على ذلك التل المرتفعـ

رأيت بنذير الشيخوخة لوحة من لوحات الزوال والفراق تتقطر حزناً ورقة،

حيث جُلتُ بنظري من قمة شجرة عمري، من الغصن الخامس والاربعين منها، الى ان انتهيت الى اعماق الطبقات السفلى لحياتي،

فرأيت ان في كل غصن من تلك الاغصان الكائنة هناك ضمن كل سنة، جنائز لاتحصر من جنائز احبائي واصدقائي وكل مَن له علاقة معي. فتأثرت بالغ التأثر من فراق الاحباب ......

لقد بحثتُ من خلال تلك الحسرات الغائرة عن باب رجاء، وعن نافذة نور، أسلّى بها نفسي.

فاذا بنور الإيمان بالاخرة يغيثني ويمدّني بنور باهر. انه منحني نوراً لاينطفىء ابداً، ورجاءً لا يخيب مطلقاً.

اجل يا اخواني الشيوخ ويا اخواتي العجائز!

مادامت الآخرة موجودة، ومادامت هي باقية خالدة،

ومادامت هي اجمل من الدنيا،

ومادام الذي خلقنا حكيماً ورحيماً؛

فما علينا اذاً إلاّ عدم الشكوى من الشيخوخة، وعدم التضجر منها؛

ذلك لان الشيخوخة المشرّبة بالإيمان والعبادة، والموصلة الى سنّ الكمال، ماهي الاّ

علامة انتهاء واجبات الحياة ووظائفها،

واشارة ارتحال الى عالم الرحمة للخلود الى الراحة.

فلابدّ اذن من الرضا بها اشدّ الرضا.

نعم ان اخبار مائة واربعة وعشرين ألفاً من المصطفين الاخيار وهم الانبياء والمرسلون (2) عليهم الصلاة والسلام – كما نص عليه الحديث – اخباراً بالاجماع والتواتر مستندين الى الشهود عند بعضهم والى حق اليقين عند آخرين، عن وجود الدار الآخرة، واعلانهم بالاجماع ان الناس سيساقون اليها، وان الخالق سبحانه وتعالى سيأتي بالدار الآخرة بلا ريب، مثلما وعد بذلك وعداً قاطعاً.

وان تصديق مائة واربعة وعشرين مليوناً من الاولياء كشفاً وشهوداً ما اخبر به هؤلاء الانبياء عليهم السلام، وشهادتهم على وجود الآخرة بعلم اليقين، دليل قاطع وايّ دليل على وجود الآخرة.

وكذا، فان تجليات جميع الاسماء الحسنى لخالق الكون المتجلّية في ارجاء العالم كله، تقتضي بالبداهة وجود عالم آخر خالد، وتدل دلالة واضحة على وجود الآخرة.

وكذا القدرة الإلهية وحكمتها المطلقة، التي لا اسراف فيها ولا عبث، والتي تحيي جنائز الاشجار الميتة وهياكلها المنتصبة، تحييها وهي لاتعد ولاتحصى على سطع الارض في كل ربيع، وفي كل سنة، بأمر ((كن فيكون)) وتجعلها علامة على ((البعث بعد الموت)) فتحشر ثلاثمائة ألف نوع من طوائف النباتات وأمم الحيوانات وتنشرها، مظهرةً بذلك مئات الالوف من نماذج الحشر والنشور ودلائل وجود الآخرة.

وكذا الرحمة الواسعة التي تديم حياة جميع ذوي الارواح المحتاجة الى الرزق، وتعيّشها بكنال الرأفة عيشة خارقة للغاية. والعناية الدائمة التي تظهر انواع الزينة والمحاسن بما لا يُعد ولايحصى، في فترة قصيرة جداً في كل ربيع. لاشك انهما تستلزمان وجود الآخرة بداهة.

وكذا عشق البقاء، والشوق الى الابدية وآمال السرمدية المغروزة غرزاً لا انفصام لها في فطرة هذا الانسان الذي هو اكمل ثمرة لهذا الكون، واحب مخلوق الى خالق الكون، وهو اوئق صلة مع موجودات الكون كله، لاشك انه يشير بالبداهة الى وجود عالم باقٍ بعد هذا العالم الفاني، والى وجود عالم الآخرة ودار السعادة الابدية.

فجميع هذه الدلائل تثبت بقطعية تامة – الى حدّ يستلزم القبول – وجود الآخرة بمثل بداهة وجود الدنيا (1).

فما دام أهم درس يلقننا القرآن أيّاه هو ((الإيمان بالآخرة))

وهذا الدرس رصين ومتين الى هذه الدرجة،

وفي ذلك الإيمان نور باهر ورجاء شديد وسلوان عظيم مالو اجتمعت مائة الف شيخوخة في شخص واحد لكفاها ذلك النور، وذلك الرجاء وذلك السلوان النابع من هذا الإيمان؛

لذا علينا نحن الشيوخ ان نفرح بشيخوختنا ونبتهج قائلين: ((الحمد لله على كمال الإيمان)).

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير