وأحسب أن عبد العظيم كان - إلى حدٍّ كبير - مع طلابه من هذا الصنف. ليست هذه شهادة صديق لصديق، وإنما هي شهادة رئيس أو عميد لأستاذ. على أن شهادة الصديق لصديقه ليست دائما موضع تهمة، فالله تعالى يقول: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152].
ومن الأصدقاء مَن يجور على صديقه، أو لا يعطيه حقَّه من الثناء إذا كان أهلا لذلك، حتى لا يُتَّهم بالتحيُّز، وهو بهذا قد ظلم صديقه، وظلم الحقَّ معًا. كما قيل: إن بعض القضاة حكموا على بعض الأمراء ظلما ليشتهروا بالعدل! وقد شاهدتُ بنفسي بعض الأساتذة، وأنا عميد لكلية الشريعة ظلم ابني، ولم يعطِه الدرجة التي يستحقُّها، حتى لا يقال: إنه جامل ابن العميد!!
لم يركض وراء الشهرة والمال
لقد عاش عبد العظيم الديب حياته راهبا ومتفرِّغا للعلم، لم يركض وراء الشهرة، ولم يسعَ إلى الأضواء، مثل كثير من زملائه، وغير زملائه. بل الحقيقة أن الأضواء سَعَت إليه، وركضت خلفه، ولكنه أبى أن يستجيب لإغرائها.
لقد كلَّمني كثير من أهل العلم أن تتاح لهم الفرصة ليظهروا في برنامج (الشريعة والحياة) الذي أقدمه في قناة الجزيرة، حين أغيب عنه لسبب أو لآخر. إلا عبد العظيم الذي ظلَّت الجزيرة تحاول أن تظفر به في حلقة من الحلقات، وهو العالم الكفء القدير على إيفاء أي موضوع يختاره حقَّه، فلم تصل إلى ما تريد، وقد وسَّطوني في ذلك لإقناعه، فلم أستطع، فقد كان موقفه مبدئيًّا.
وظهرت المصارف (البنوك) الإسلامية، وهيئات الرقابة الشرعية فيها، وفيها مجال للإغراء، وهو من رجال الفقه المعدودين، فلم يقبل أن يدخل في هذا الميدان أيضًا، في حين نرى كثيرين من زملائنا قد أصبح هذا شغلهم الشاغل، الذي يستهلك كلَّ وقتهم أو جُلَّه، ويشغلهم عن العطاء العلمي المنشود من مثلهم.
ولقد شغله الاستغراق في خدمة العلم عن مجاملة الناس، وزيارتهم في مجالسهم، والتعرُّف على كبار الشيوخ الذين لهم منزلة وتأثير في البلد، كما فعل كثيرون. ولا غرو أن أُعطيت الجنسية القطرية لعدد من زملائه، وكلُّهم من أهل الفضل، وكان هو أحقَّ بها وأهلها، فهو أقدم منهم في البلد، وأعظم كفاية، بشهادتهم أنفسهم، ولكن الكثيرين لا يعرفونه.
مشغول بهموم الأمة
ومع عكوفه على العلم، واستغراقه فيه، كان أبدا مشغولا بهموم الأمة، أمَّة الإسلام في المشارق والمغارب، ومشكلاتها السياسية والاقتصادية، وقضاياها الثقافية والاجتماعية، وله فيها رأي ورؤية، وما لقيتُه مرَّة أو حدَّثتُه بالهاتف إلا أخذتْ هذه الهموم جُلَّ وقتنا، فلا يستطيع العالم الحقُّ - وإن ترهَّب وتفرَّغ - أن ينفصل عن أمَّته وما تشكو منها، وهو جزء منها، وعضو في جسدها، ومن لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم.
اشتغاله بالتحقيق أكثر من التأليف
اشتغل عبد العظيم بالتحقيق أكثر مما اشتغل بالتأليف، مع أنه قادر على التأليف بمنهجية وجدارة، ولقلمه نفحة أدبية ظاهرة، وله اهتمام بالثقافة العامَّة، وبالتاريخ الإسلامي خاصَّة، وله فيه دراسات وكتابات جيدة، نشرت له (الأمة) في سلسلة كتبها الدورية: كتابا منها بعنوان: (المنهج في كتابات الغربيين عن التاريخ الإسلامي)، حتى إنه كتب قبل ذلك كتابا عن (أبي القاسم الزهراوي)، الطبيب الجراح المسلم المعروف، وقلما يعنى المشايخ بمثل هذه الأشياء! كما له عناية فائقة باللغة والأدب والشعر، ولا غرو فهو ابن دار العلوم الأصيل.
ولم يؤلِّف فيما يُدرِّسه إلا كتابا واحدا في الميراث والوصية، ليوفِّر وقته لتحقيق الكنوز التي عكف عليها.
مقدمتي لتحقيق (نهاية المطلب)
وقد كتبتُ مقدِّمة طويلة لعمله العلمي الكبير، وهو تحقيقه لكتاب (نهاية المطلب) لشيخه ومعشوقه إمام الحرمين، تضمنت ثلاث كلمات: كلمة عن إمام الحرمين، وكلمة عن كتاب (نهاية المطلب)، وكلمة عن المحقِّق، ولا بأس أن أقتبس هنا بعض ما كتبته عن المحقِّق، قلتُ:
(وأما المحقق، فهو الأخ الصديق الصدوق: الأستاذ الدكتور عبد العظيم محمود الديب، الذي أعرفه منذ كان طالبا في القسم الابتدائي بمعهد طنطا الديني، وتربطني به منذ ذلك الزمن صلة وثيقة، لم تزدها الأيام إلا قوَّة، وإن كان يصغرني ببضع سنوات.
¥