تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

(الوجه الثاني): أن الأصل المقرر عند العلماء المؤيد بالدليل هو استواء جميع الناس في أحكام التكليف ولو كان اللفظ خاصاً ببعضهم. إلا ما جاء مصرحاً بالخصوص فيه، ولذلك فجميع الخطابات العامة يدخل فيها النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وأحرى غيره. وما ذلك إلا لاستواء الجميع في الأحكام الشرعية إلا ما قام عليه دليل خاص، فقد سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم بما يتضمن ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم لما قال: (لن يدخل أحدكم عمله الجنة). قالوا: يا رسول الله ولا أنت. قال: (ولا أنا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل) فكأنهم يقولون له: أأنت داخل معنا في هذا العموم؟ وهو يجيبكم بنعم. وما ذلك إلا لاستواء الجميع في الأحكام الشرعية.

فإن قيل: آية الحجاب تخص بمنطوقها أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

فالجواب: أنها لم تدل على أن غيرهن من النساء لا يشاركهن في حكمها. والأصل مساواة الجميع في الأحكام الشرعية إلا ما قام عليه دليل خاص.

ولذا تقرر في الأصول أن خطاب الواحد المعين من قبل الشرع من صيغ العموم، لاستواء الجميع في أحكام الشرع. وخلاف من خالف من العلماء في أن خطاب الواحد يقتضي العموم خلاف لفظي، لأن القائل بأن خطاب الواحد لا يقتضي العموم موافق على أن حكمه عام إلا أن عمومه عنده لم يقتضه خطاب الواحد بل عمومه مأخوذ من أدلة أخرى كالإجماع على اسواء الأمة في التكليف. وكحديث (ما قولي لامرأة إلا كقولي لمائة امرأة) فالجميع مطبقون على أن خطاب الواحد يشمل حكمه الجميع إلا لدليل خاص، واختلافهم إنما هو هل العموم بمقتضى اللفظ أو بدليل آخر.

(الوجه الثالث): أنا لو سلمنا تسليماً جدلياً أن حكم الآية الكريمة خاص بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فهن القدوة الحسنة لنساء المؤمنين. فليس لنا أن نحرم نساءنا هذا الأدب السماوي الكريم المقتضي المحافظة على الشرف والفضيلة، والتباعد عن أسباب الرذيلة ودنس القلوب، وقد اختاره الله لنساء أحب خلقه إليه، وأفضلهم عنده.

ومن آثار الفوارق بين النوعين تنبيه القرآن العظيم على أن صوت المرأة إذا ألانته ورخمته فإنه يصير من مفاتنها المؤدية إلى إثارة للغرائز وطمع مرضى القلوب في الفجور، قال الله تعالى: {ولا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض} الآية (1).

وفي ذلك أوضح دلالة على أن إذاعة صوت المرأة في أقطار الدنيا في غاية الترخيم والترقيق بالألحان الغنائية مخالف مخالفة صريحة للآداب السماوية التي أدب الله بها مساء أحب خلقه إليه. وهن القدوة الحسنة لنساء المؤمنين. والفاء السببية في قوله: {فيطمع الذي في قلبه مرض} تدل دلالة واضحة على أن الخضوع بالقول كالإنته وترخيمه سبب لطمع مرضى القلوب فيما لا ينبغي، ولا شك أن وجود السبب ذريعة لوجود المسبب، والذريعة إلى الحرام حرام، فيجب سدها، وهذا النوع من أنواع الذرائع الثلاث مجمع على سده.

ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا عدوا بغير علم} (2) فإنه نهى عن سب الأصنام لكونه ذريعة إلى سب عابديها فيسبوا الله. وقوله: {ولا تقربا هذه الشجرة} الآية (3). فنهاهم عن قربانها لأن القرب من الشيء ذريعة للوقوع فيه كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

ومن الأحاديث الصحيحة الدالة على أن ذريعة الحرام حرام، قوله صلى الله عليه وسلم: {إن من العقوق شتم الرجل والديه. قالوا يا رسول الله هل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه) فقد جعل صلى الله عليه وسلم ذريعة السب سباً، وهو واضح في أن ذريعة الحرام حرام.

و (بالجملة) فمن المحسوس أن صوت المرأة الرخيم الرقيق من جملة مفاتنها كمحاسن جسدها، ولذا ترى المتشبهين بالنساء يذكرون الصوت الرخين كذكرهم جمال الجسم وذلك كثير جداً كقول ذي الرمة:

لها بشر مثل الحرير ومنطق ……رخيم الحواشي لا هراء ولا نزر

وعينان قال الله كونا فكانتا……فعولان بالألباب ما تفعل الخمر

فجعل صوتها الرخيم وبشرتها التي هي من الحرير وحسن عينيها سواء في أن الجميع من جملة محاسنها.

وقال قعنب بن أم صاحب:

وفي الخدود لو أن الدار جامعة……بيض أوانس في أصواتها غنى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير