تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الفكر، ويتواجد متلذذا بمواجيد الشعور بمعية الله، وحقائق الكون الكبرى.

ومثل ذلك لا يحصل في لغط النقاش الجماعي، وضوضاء الجدل المتعدد.

رفيق النجوى

نعم رفيق النجوى، وهو الثاني (مَثنَى)، يكون معك على موجدة واحدة في التأمل، وتبادل المشاعر والمواجيد. تماما كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلو لربه فردا، أو مع صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه أحيانا، أو غيره من الصحابة الكرام. فإذن تكون أبواب القلب أكثر انفتاحا لتقبل ما يلقى عليها من واردات الحب، والشوق، والمعرفة الربانية.

ومما يزيد هذه الآية دقة فيما نحن فيه التعبير بـ"ثم" التي تفيد الترتيب. فكأنه تعالى جعل شكل التفكر ?مَثْنَى وَفُرَادَى? هو الكفيل وحده بنجاح عملية التفكر، ولذلك قال سبحانه: ?ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا?.

?قُلْ إنَّمَا أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ? فعل واحد لا ثاني له، كفيل بأن يقود الإنسان إلى الحقيقة: التفكر. هل خلوتَ بنفسك يوما؟ أو ناجيت رفيقا لك في أمر الكون والحياة والمصير؟ عندما يمتد الفكر سائحا في أقاضي الكون يضل ويتيه. وأنَّى له أن يهتدي في دروب ومسالك ينتهي الخيال ولا تنتهي منافذها؟! إذن يرجع الفكر منكسرا عاجزا. وإن ذلك لعمري هو الإسلام؛ الخضوع للعظمة المطلقة فوق الزمان والمكان، والاعتراف بالقصور عن الإحاطة؛ ولا بأي طرف من أطرافها. ?مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ? (الملك:3 - 4). الرجوع إلى الصف الآدمي للانضمام إلى سلك "العادة الطبيعية"، رجوع في العمق إلى مقام الخدمة والعبودية. موجدة ليست في حاجة -حينئذ- إلا إلى الإفصاح والتعبير: "لا إله إلا الله".

وهنا يكمل جمال الدين، الدفء الحاصل عند الشعور بالانسجام مع سائر الخلق السيار، كل في سربه وفلكه:

?تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورً? (الإسراء:44). هذا التوحيد الكوني في التعبير، بل هذا التناسق الكلي في نفث المواجيد، عبر شتى ألوان العبادة، له ذوق "الأنس" الذي يملأ القلب نشاطا وحبا للحياة الممتدة طولا وعرضا.

التنافس في طريق المحبة

التنافس هنا إذن هو في طريق "المحبة". الكل يحب، والمحبوب واحد. تلك هي القضية. إذن أيّنا يبذل أكثر؟ وأيّنا يشكر أكثر؟ فهذا مجال الإفصاح عن مواجيد الذلة لملك القلوب ومالكها. وكلما كان الحب أصدق كان أكثر إذلالا لصاحبه. ولكنها ذلة اللذة والمتعة العليا، والشعور بالراحة في سبيل رضى المحبوب، وينطلق السباق ... وتلك لذة أخرى، لها قصة أخرى.

الله! هذا المعنى العظيم الذي ننطلق منه لِنُقِرَّ أنه "لا إله إلا هو". تدخل إلى ملكوته من باب "التفكر" بوجدان المحبة الكبرى. ولكن كيف؟

لطالما كنت أقرأ عن رواد الحب الإلهي، فكنت أتعجب كيف يجدون هذه الموجدة، بهذا الشوق كله!؟ فتفكرت دهرا، فإذا الباب ينفتح بمفتاح

"الربوبية":

الله، هذا السيد العظيم هو الخالق لكل شيء من الجلائل والدقائق. وما أنت أيها العبد في ملك الله العظيم، الممتد بلا حدود، إلا ذرة من البلايين التي لا يحصرها خيال، من الذرات السائرة في متاهة الكون الفسيح. ألم يكن ممكنا في قدر الله وقدرته تعالى ألا تكون أصلا؟ إنها نعمة الخلق إذن، فأعظم بها من نعمة لا تحصى حمدًا ولا تحاط شكرا، ولو عشت أعمار الخلائق جميعا حامدا وشاكرا. ?هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا? (الإنسان:1). لمسة "الحياة" هي النعمة الكبرى بعد الخلق .. ألم يكن ممكنا أن تكون جمادا؟ ثم إنها حياة الروح أكبر هبة إلهية للإنسان.

تأملات تملأ القلب حَيرة وعجبا. أن يكون بين الناس في ظل هذه الحقائق الرهيبة منكرون ... عجبًا .. عجبا!

ولا يملك المتفكر في آلاء الله ونعمائه العظمى إلا العجب.

أن تتفكر في جمال الإحسان الرباني، يعني أن تقع أسير أنواره، وجلال كماله، مؤمنا خاشعا متبتلا.

ذلك هو سر المحبة، وهو المعراج السري لقافلة المحبين السائرين إلى منازل الحبيب. قال بديع الزمان النورسي رحمه الله:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير