وإنْ كانَ خَرقٌ فادَّرِكْهُ بِفَضْلَةٍ & مِنَ الحِلْمِ ولْيُصْلِحْهُ مَنء جادَ مِقْوَلا
أخي الحبيب وأستاذي الفاضل أبا تمَّام
أولاً، أسأل الله العظيم تيسيرَ أموركم، فقد انشغلتُ على غيابكم.
ثانيًا، قد – والله – بالغتُم في الثناءِ عليَّ بما لستُ أهلاً له، ولا جديرًا به، ولكنَّ كريم خلقكم يأبَى إلاَّ ذلك.
ثالثًا، مَن قال: إنَّ الموضوع قد انتهى تحليلاً ومناقشة، لا يزال في الأمر متَّسعٌ لكم ولبقيَّة الأساتذة الكرام لعرض آرائهم وتصويباتهم، وما مشاركتي معكم ومع بقيَّة أساتذتي الأفاضل إلا طلبًا للعلم والاستفادة.
أستاذي الفاضل: تواضعكم الجميل، وخلقكم الرفيع، جعلاني أتردّد في الاستمرار في هذا النقاش، ولولا الهدف السامي لتحصيل فوائد جمَّة من هذه المناقشات، ومدى الاستفادة من اتسَّاع دائرة التفكير والنظر في المسائل، لآثرت التوقُّف، زادكم الله علمًا وتوفيقًا، وبارك فيكم.
والحمد لله، فقد بدأ اتجاهنا في النظر إلى ما طُرِح من مسائل في هذه المشاركة يقترب أكثر فأكثر.
فقد انتهينا من مناقشة ((سبعين))، وبقيت مسألتان أو ثلاث: الأولى إعراب قوله تعالى ((أن جاءهُ الأعمى))، والثانية: المسألة محلِّ الخلاف " أن أرى أليفين ".
أمّا المسألة الأولى، فأرى – والله أعلم – أن أستفيض في الكلام عنها، لما لمستُه من خلال تعقيبكم من وجود تشوُّش في فهمكم لتقدير الإعراب، وحيث إنَّ هذا الأمر يتعلٌَّق بكتاب الله - عزَّ وجلَّ ـ فلا بدَّ من توضيح المعنى على ضوء اجتهادكم، وأسأل الله أن يُيسِّر لي الإجابة.
وأمَّا المسألة الثانية والتي تتعلَّق بمسألة الخلاف، فلن أستفيض فيها، إذ أنها من كلام البشر، ولسنا آثمين – إن شاء الله – إن جزمنا بإعراب دون الآخر.
أستاذي الفاضل / أبا تمَّام، رأيكم في تقدير كلمة " كراهة " قبل المصدر ((أن جاءَه الأعمى)) فيه نظر، إذ لو قدَّرتَ ذلك لفسد معنى الآية الكريمة، إذ أنَّ تقدير هذه الكلمة " كراهة " تعني أنَّ الرسول - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم – عبس أو تولَّى، حتَّى لا يجيئه الأعمى، فهل كان الرسول - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم – يعلم بمجيء الأعمى حين بدأ مناقشة صناديد قريش، فهنا لا يمكن أن تُقدَّر كلمة كراهة أو كلمة خشية أو أي كلمة بهذا المعنى.
أمَّا قوله تعالى ((يُبيِّنُ اللهُ لكم أن تضلُّّوا))، فالله - سبحانه وتعالى – يبيِّن لنا أحكامَه وحدودَه لئلاَّ نضلَّ، أو كراهة أن نضلَّ.
وفيه وجوه: الأول: قال البصريون: المضاف ههنا محذوف وتقديره: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، إلاّ أنه حذف المضاف كقوله ((وَاسْئَلِ القَرْيَةَ)) (يوسف: 82)، الثاني: قال الكوفيون: حرف النفي محذوف، والتقدير: يبين الله لكم لئلا تضلوا، ونظيره قوله ((إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَن تَزُولاَ)) (فاطر: 41) أي لئلا تزولا.
((أنْ تضلوا)) تقدير البصريين والمبرد وغيره: كراهة أن تضلوا.
وقدَّره الكوفيُّون والفراء والكسائي، وتبعهم الزجاج: لأن لا تضلوا، وحذف " لا " ومثله عندهم قول القطامي:
رأينا ما رأى البصراء منا & فآلينا عليها أن تباعا
أي أن لا تباعا، وحكى أبو عبيدة قال: حدثت الكسائي بحديث رواه ابن عمر فيه: (لا يدعون أحدكم على ولده أن يوافق من الله إجابة)، فاستحسنه أي لئلا يوافق، وقال الزجاج هو مثل قوله تعالى ((إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا)) أي لأن لا تزولا، ورجَّح أبو عليّ قول المبرد بأن قال حذف المضاف أسوغ وأشبع من حذف لا.
فعلى مذهب البصريين: يُعرب المصدر مفعولاً لأجله، وأما على مذهب الكوفيين، فيُعرب منصوبًا بنزع الخافض.
لكن الفريقين اتفقا على إعراب موضع عبس مفعولاً لأجله، لأن المقام هنا لا يحتاج إلى تقدير، لا كلمة، ولا حرف جرّ، واختلفا في العامل، إن كان الأول، أي " عبس " أو الثاني، أي " تولَّى ".
أرجو – أستاذي الكريم – أن تكون الصورة واضحة في الفرق بين الآيتين الكريمتين.
¥