وأمّا تقديركم لكلمة " كراهة مجيئه " في موضع عبس، نظرًا لورود " كره كلامه في بعض التفاسير، فأقول، نعم قد ورد ذلك في بعض التفاسير، ولكن قالوا: " كره كلامه " لا مجيئه، إذ لو رأى علماء التفسير تقدير كلمة كراهة للمصدر لنصُّوا عليها في موضعها، دون الحاجة أن يتركونا نستنبطها من ثنايا تفسيرهم.
قلتم – بارك الله في علمكم – " ذكرت من أحد الردود أن المصدر المؤول لا يقع مفعولا لأجله، لكن المفعول لأجله يكون محذوفا حل محله المصدر المؤول "
أقول: أهذا اجتهاد منكم – وفَّقكم الله – أم أنه رأي أحد العلماء؟!
ما أعلمه – حسب علمي القاصر – أنَّ المصدر المؤول مثل المصدر الصريح، هو اسم، ويُعرب حسب موقعه من الجملة، وسأذكر لكم تفصيلاً أقوال العلماء في إعراب المصدر المؤول ((أن جاءه الأعمى)):
فقد قال بإعرابه مفعولاً له القرطبيُّ في تفسيره " الجامع لأحكام القرآن " والشوكانيُّ في " فتح القدير "، وأبو حيَّان في " البحر المحيط "، والرازي في تفسيره، والزمخشريُّ في كشَّافه، والنسفيُّ والبيضاوي في تفسيرهما، والأشمونيُّ في " الوقف والابتدا " وأبو محمد القيسيُّ في " إعراب مشكل القرآن "، وهو ظاهر كلام الطبريِّ في " جامع البيان في تفسير القرآن "، وهو ظاهر ما ذهب إليه أبو البقاء العكبري أيضًا في كتابه " التبيان في إعراب القرآن ".
أولئكَ عُلَمائي فجِئْني بمثلِهِمْ & إذا جَمَعَتْنا يا جَريرُ المَجامِعُ
أستاذي الفاضل، عجيبٌ أمركم، كيف سَوَّغتم مجيء المصدر المؤول بدلاً ثمَّ تمنعون وقوعه مفعولاً لأجله، بالرغم من أنَّ البدل لا يُشترط مجيئه مصدرًا، في حين اشترط العلماء أن يكون المفعول لأجله مصدرًا.
وكما ذكرتُ سابقًا، أنَّ المصدر المؤول يُعرب حسب موقعه من الجملة:
فيقع مبتدأ، نحو قوله تعالى: ((وأن تصوموا خيرٌ لكم))
ويقع خبرًا، نحو قوله تعالى: ((إنَّما أمرُهُ إذا أرادَ شيئًا أن يقولَ لهُ كنْ فيكون)).
ويقع اسم كان، نحو قوله تعالى: ((ما كانَ للهِ أن يتَّخِذَ من ولدٍ))
ويقع خبرًا لها، نحو قوله تعالى: ((ثُمَّ لمْ تكنْ فِتنتُهُمْ إلاَّ أن قالوا واللهِ ربِّنا ما كُنَّا مُشْركينَ))
ويقع فاعلاً، نحو قوله تعالى: ((ألمْ يَأْنِ لِلذينَ ءَامنوا أن تَخْشَعَ قُلُوبُهُم لِذكْرِ اللهِ))
ويقع مفعولاً به، نحو قوله تعالى: ((فأرادَ ربُّكَ أن يَبلُغَا أشُدَّهما))
ونائبًا عن الفاعل، نحو قوله تعالى: ((قلْ إنما يُوحَى إليَّ أنَّما إلَهُكُم إلَهٌ وَاحدٌ))
ويقع مجرورًا بحرف الجرّ، نحو قوله تعالى: ((ذلك بأنَّ اللهَ هو الحقُّ))
ويقع مضافًا إليه، نحو قوله تعالى: ((لَنفِدَ البحرُ قبلَ أن تنفدَ كلماتُ ربِّي))
وأخيرًا وصلنا إلى المحطَّة الأخيرة للنظر في رؤية شاعرنا أبي صخر الهذليِّ، وليته أغمض عينيه فلم يرَ شيئًا ذلك الوقت.
قلتُم – أستاذي الكريم – " فإذا أردنا أن نحكم بموضع الحسد في البيت السابق علينا بأخذ المضاف (رؤية) والمضاف إليه (ألفين)، ونجعلهما كالكتلة الواحدة لما يقتضيه تعريف المضاف إليه. "
أقول: نعم هذا صحيح، لا يمكن أن يُفصَل المضاف عن المضاف إليه، ولكن لننظر، هل سيتغيَّر الحكم، أم لا؟
إذا قلتَ: قرأتُ صفحة الكتاب، فهذا معناه أنك لم تقرأ الكتاب، بل صفحةً معيَّنةً منه.
وإذا قلتَ: مررتُ بمعلِّم الطلاب، فهذا يعني أنك مررتَ بالمعلِّم وحده دون الطلاب. فالحكم منصبٌّ على المضاف فقط.
لازال تأويل المصدر وفق إعرابكم إيَّاه بدلاً، هكذا: " (لقد تركتْني أحسُدُ رؤيةَ أليفينِ من الوحشِ)، ولازال الحسد منصبًّا على رؤيته , والرؤية ليست موضع حسد، بل الحسد لذات الشيء المحسود،
فيقال: حسدوا الفتى على غناه، أو على حسن منظره، أو على حسن صوته.
ولا يقال: حسدوا غناه، أو: منظره، أو: صوته، لأنَّ الحسد للذات، لا للمعاني، قال تعالى: ((أمْ يَحسُدون الناسَ على ما ءاتاهمُ اللهُ مِنْ فضلِهِ))، فلم يحسدوا الفضلَ الذي أوتوه، بل حسدوا الناس، وقال الشاعر:
حَسَدُوا الفتَى إذْ لم ينالُوا سَعيَه & فالقومُ أعداءٌ لهُ وخُصومُ
ولم يقل حسدوا سعيه.
فحَسَدُ الرؤية فيه نظر، ولو سلَّمنا أنه صحيح، يظلُّ معني البيت ناقصًا، إذ معناه – حسب إعرابكم – أنَّ محبوبتَه جعلته يحسد فقط أليفين من كامل أفراد الوحش، أليس كذلك أستاذي الفاضل؟
أمَّا على إعرابه مفعولاً لأجله، فيكون معنى البيت: جعلته محبوبتُه يحسد كامل أفراد الوحش من أجل رؤية أليفين منها، وفرق كبير بين أن يحسد الوحش بكامله وأن يحسد أليفين من أفراده، والله تعالى أعلم.
ختامًا أرجو المعذرة منكم على سوء صياغة أسلوبي في المناقشة، وتقصيري في جانب الأدب معكم، والمعذرة من أساتذتي الكرام على كثرة أخطائي في هذا المنتدى المبارك الذي أسأتُ إليه كثيرًا، سائلاً المولى – جلَّ جلاله – التوفيق للجميع، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.
تلميذكم
حازم
¥