تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأما كتابه (الكتاب) فيمثل المرحلة الحقيقية لنضج النحو العربي، في أسمى تجلياتها، وأعلى مراتبها وأرقى مدارجها، وهو أول كتاب في النحو تعرفه المكتبة العربية الاسلامية، فلم يصل الينا كتاب قبله (مع وجود أسماء لمؤلفات: الجامع والاكمال وغيرهما، ضاعت)، وبمعنى آخر: يمثل كتابه ثمرة لجهود النحاة واللغويين، وعلماء القراءات، على مدى ما يزيد على قرن من الزمن، هي مرحلة الاشتغال الفعلي بوضع علم النحو وغيره من علوم، فجاء كتابه الذي يعتمد سيبويه في أكثره على الروايات والنقولات عن أساتذته وشيوخه مرآة صادقة صافية لمعطيات المنهج العلمي الوصفي، الذي التزمه علماء النحو في تقعيد قواعدهم، وهو منهج يتفق مع النظريات اللغوية الحديثة في دراسة اللغات، وتناولها تناولاً صحيحاً يفضي الى حقائق العلم الرصين، وآفاق المعرفة الأصيلة.

أما المنهج الوصفي فيقوم أولاً وقبل كل شيء على السماع والمشافهة، ثم على تدوين ما يسمع تدويناً أميناً دقيقاً، وكان نفر غير قليل من اللغويين والنحاة قد ارتحلوا الى البوادي، يسمعون من أفواه العرب والأعراب الذين يتمتعون بالأصالة اللغوية والنقاء العرقي، (وهما مطلبان أساسيان حتى في أيامنا هذه، حيث لا نطمئن الى من يدرس اللغات الأجنبية الا لأبنائها الذين تحدروا من أصلابها)، فلم تفسد سلائقهم وطبائعهم، مع سلامة لغاتهم ولهجاتهم من كل عجمة ومن كل دخيل.

وعلى أساس من هذا المنهج الوفي، جاء كتاب سيبويه تدويناً صوتياً وتسجيلاً أميناً دقيقاً لما كان يُسمع من أفواه العرب الخلص, وهو كتاب لا يقتصر - كما يتوهم المتوهمون - على النحو وقواعد اللغة فحسب، بل يشتمل على كثير من النظريات الصوتية التي أيدها البحث العلمي الحديث، والأبنية الصرفية والتراكيب اللغوية، التي تمثل «النموذج» الأمثل، الذي يصح أن تقنن القواعد العامة بموجبه، وعلى أساس منه.

وبمجرد الانتهاء من الدراسة الوصفية ومن عملية التدوين تتحول معطيات المنهج الوصفي الى المنهج المعياري، الذي يضع المعايير الدقيقة في تقعيد القواعد، بحيث يصبح التزامها من قبل الأجيال القادمة، وتمثلها والأخذ بها عاملاً مهماً لمن أراد أن تكون لغته عربية فصيحة، تنسج على منوال عربي فصيح، وعلى «نحو» ما كان يتحدث به أرباب تلك اللغة أنفسهم.

ألا يستأهل سيبويه منا، بعد مرور قرون وقرون كلمة شكر وثناء وموقف تقدير واحترام واعتزاز بفضله على اللغة، لما بذله من تضحيات جسام لا ينكرها إلا جاحد، ولا يتنكر لها إلا مكابر، أفلا يستأهل كلمة رحمة وعزاء وهو في مثواه، وفي ذمة الله!!

أقول هذا وقد أمعنت النظر وأطلت، لأن هناك سؤالاً ملحاً، لا يكون له مكان إلا بعد ما قدمت بين يديه من إمعان في النظر وإطالة في القول، وهو هل نريد أن نكون عرباً أم نريد أن نكون أنصاف عرب، أم متغربين، نهجر لغتنا، ونتخلى عن تراثنا، وهنا تكمن مشكلة الباحثين في شأن التراث، وليس معنى ذلك الانغلاق عليه والتقيد به، وأن نتوقف عنده وندير ظهورنا لكل حديد نافع.

لقد تعرضت اللغة العربية وتراث العرب، بما فيه التراث الديني وهذا بيت القصيد الى حملات متعددة من التشهير والتجريح والارتياب والتشكيك منذ قرون، ومنذ القرن الثاني قرن سيبويه، ولكن القدامى من الخصوم والمرتابين كانوا على درجة من التسامح، وكانت اللغة العربية هي فارس الحلبة المنتصر في كل خصومة وكل نزال، وسوف تظل كذلك على مدى الدهور والأزمان، غير أن المرتابين وأصحاب الأقلام المأجورة هذه الأيام، بل منذ بدايات حركات التبشير والتغريب، وظهور النعرات الإثنية والتعصبات العرقية خلت قلوبهم من كل رحمة ومن كل تسامح مع هذه اللغة التي شرفها الله بنزول كتابه بها واتخاذه سبحانه وتعالى هذه اللغة مادة للنص القرآني: (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين) (103 النحل).

أما تلك التهمة القديمة الجديدة التي يتشدق بها نفر من المتشدقين وأدعياء الثقافة بأن اللغة العربية لغة متخلفة متحجرة، ولم تعد تواكب روح العصر، فتلك تهمة أشبه بكلمة حق يراد بها الباطل والضلال والاضلال، وذلك من زاويتين:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير