تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لا بد من مفارقة المعاصي لأن في المعاصي ذل يصاحب العاصي في الدنيا والآخرة، وكيف يكون العاصي عزيزا وهو قد قطع صلته بالعزيز المعز وخالف أمر رسول الله، يقول فيما أخرجه أحمد من حديث ابن عمر: ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله تعالى وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري))، فالذل حتم محتوم على من عصى وأقام على الذنوب، قال سليمان التيمي: "إن الرجل ليذنب الذنب فيصبح وعليه مذلته".

والكثير منا ـ عباد الله ـ قد لا يرى هذا الذل على وجوه العصاة لسببين، أولا: لأننا تلبسنا مثلهم بالمعاصي فتشابهنا معهم فلم نلحظ هذا الذل، وثانيا: لأننا نقيس الذل بمقياس دنيوي، فننظر إلى مكاسب الإنسان الدنيوية على أنها عز ورفعة حتى ولو كان من العاصين، أما الذين يرون بنور الله ويسيرون على نهج رسول الله فإن المظاهر لا تخدعهم والمتع لا تستدرجهم، بل لهم بوصلة ثابتة يسيرون بها في الحياة نحو اتجاه واحد هو مرضاة الله والجنة، وعلى ضوئها يحكمون على الأشياء، يقول الحسن البصري رحمه الله وهو يرى العصاة وذوي الجاه يتبخترون فوق البغال والبراذين يقول: "إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه".

فالمعصية ذل في هذه الدنيا، وهي ذل في الآخرة أيضا عندما يرى العاصي نتاج عمله وقطوف زرعه، يقول سبحانه: وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ [الشورى:44، 45].

لا بد من مفارقة المعاصي لأن في المعاصي حرمان الرزق، فالرزق من الرزاق، وبقدر طاعة المسلم لمولاه بقدر ما يرزقه ويبارك له في رزقه ويقنعه به، وإلا فهو محروم من الرزق أو غير مبارك له فيه أو ليس قانعا بما رزقه الله، بل يعيش دائما ملهوفا منهوما، فالإيمان والطاعة أسباب تفتح باب الرزق، والمعاصي توصده، يقول سبحانه: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ ءَامِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [النحل:112]، ويقول سبحانه عن أهل سبأ: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ [سبأ:15 - 17].

هذه هي نتيجة المعاصي والعتو والتمرد على أوامر الله سبحانه، إذا كان المسلم يؤمن بأن الله هو الرزاق فلا بد أن يرضيه حتى ينال من رزقه الطيب المبارك، ولا بد أن يعلم أنه قد يتأخر عنه الرزق أو يضيع بسبب الذنوب، أخرج الإمام أحمد عن ثوبان رضي الله عنه قال: (إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه)، ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إن للسيئة سوادا في الوجه وظلمة في القبر ووهنا في البدن ونقصا في الرزق وبغضا في قلوب الخلق).

كل هذه ـ عباد الله ـ آثار للمعاصي وتبعات تبين لنا شؤم المعصية على صاحبها، وتحثنا وتحفزنا على الابتعاد عن المعاصي حتى لا تطالنا هذه العقوبات، كما أن إثبات صدق التوجه إلى الله سبحانه وصدق الرجوع والإنابة إليه يقتضي ترك المعصية، فلا يمكن للمقيم على المعصية أن يكون صادقا في التوجه إلى الله.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير