قويا في عدم الكشف عنها او الاهتمام بأمرها حتى الآن وربما كان السبب استصغارا لحجمها بالقياس للمنظومات النحوية الاخري التي تصل الى ألف بيت او يزيد، وربما كان السبب الشك في صحة نسبتها الى الخليل بن احمد، اذ كيف تكون هذه المنظومة كتبت في القرن الثاني الهجري ولم تظهر للنور حتى الآن؟
كل هذا دار في خلدي وانا بين الاقبال مرة والاحجام مرات على تحقيقها الى أن عثرت على نص لخلف الأحمر (2) الذي كان معاصرا للخليل، وكانت وفاته بعد وفاة الخليل بعشر سنوات تقريبا. هذا النص يشير الى تلك المنظومة النحوية للخليل، بل وينقل بيتين من تلك المنظومة مستشهدا بهما على قضية نحوية نواها في نص خلف الاحمر الذي يقول فيه تحت عنوان "باب حروف النسق" يقول خلف الأحمر عن هذه الحروف في كتابه "مقدمة في النحو" (3).
"فنسق بها، فإذا اتيت برفع ثم نسقت بشيء من حروف التنسيق رددت على الأول "أي عطفت على الأول" وكذلك إذا نصبت وخفضت ثم اتيت بحروف النسق رددت على الأول. وحروف النسق خمسة. وتسمى حروف العطف. وقد ذكرها الخليل بن احمد في قصيدته في النحو، وهي قول الشاعر:
فانسق وصل بالوار قولك كله
وبلا وثم وأو، فليست تصعب
الفاء ناسقة كذلك عندنا
وسبيلها رحب المذاهب مشعب
وهذان البيتان يحملان رقمي 157، 158 من منظومة الخليل النحوية، وان كانت كلمة القافية في البيت الاول جاءت على اشكال متنوعة فمرة "تعقب" ويكون القصد منها أن (أو) ليست للتعقيب مثل ثم الواقعة قبلها مباشرة، ومرة جاءت "تعصب" وجاء التركيب "ولست تعصب" اي لست متشددا عند استخدام حروف العطف هذه، ومرة جاءت "ولست تغضب" من الغضب ... الخ
وهذه كلها اشكال متغايرة جاءت باختلاف النسخ وكلها جاءت في شكل اختلافات يسيرة لا تمثل خللا في صلب القضية موطن الحديث، وفي نهاية الامر قد تأكد وجود البيتين في منظومة الخليل التي اشار اليها خلف الأحمر، بل وجاءت تحت عنوان "باب النسق" في قصيدة الخليل الذي قال تحت هذا الباب مباشرة:
واذا نسقت اسما على اسم قبله
اعطيته اعراب ما هو معرب
وانسق وقل بالوار ....
والفاء ناسقة .....
فتقول حدثنا هشام وغيره
ما قال عوف او حسين الكاتب
واستمر الخليل في التمثيل لحروف العطف رفعا ونصبا وجرا حتى البيت رقم 162 من المنظومة.
لعل تساؤلا ملحا يطرح نفسه بقوة امامنا الآن، هذا التساؤل مفاده هو: كيف نعتمد على اقوال واخبار خلف الاحمر وقد كثر اتهام المؤرخين له بالانتحال والوضع ونقل الأخبار غير الموثوق بصحتها؟ الا يمكن ان يكون ذكر خلف الاحمر لهذه المنظومة النحوية ونسبتها للخليل على لسانه مثارا للشك في تلك النسبة؟ حيث يتهم في اخباره واشعاره ونسبتها الى اصحابها.
وللاجابة على هذا انه يمكن ان يكون لهذا السؤال وجاهته ومجاله لو ان الامر كان متعلقا بأبيات او بقصيدة لها غرض آخر، مثل المدح او الذم او ذكر يوم من أيام العرب او ذكر مثالب قبيلة ما او اثبات نسبة ما لبعض الاشخاص او غير ذلك من الاشياء التي يمكن ان تكون مثارا للوضع والانتحال، ان ثبت ذلك عن خلف الاحمر، اما وان الامر متعلق بقصيدة نحوية ليس الفرض منها اجتماعيا او سياسيا او مدحا او ذما، فان امر الشك لا مجال له هنا والسؤال القابل الذي يطرح نفسه في وجه هذا الشك هو لماذا يتخيل احد اسبابا غير حقيقية لخلف الاحمر كانت عاملا على نسبة هذه القصيدة للخليل بن أحمد؟ واي اسباب هذه تلك التي تجعل خلف الاحمر حريصا على نسبة هذه القصيدة للخليل غير الحقيقة في وجود هذه النسبة؟
واذا كان هناك من يشك في رواية خلف الاحمر للاشعار فان هناك ايضا من يثبت له الثقة والنزاهة يقول صلاح الدين الصفدي عن خلف (4) "كان راويه ثقة علامة يسلك الاصمعي طريقه ويحذو حذوه حتى قيل؟ هو معلم الاصمعي، وعر والاصمعي فتقا المعاني واوضحا المذاهب وبينا المعالم" بل ان الزركلي ينقل قول معمر بن المثنى ان خلف الأحمر معلم الأصمعي ومعلم اهل البصرة (5) ولاشك ان كل هذه شهادات علمية جيدة في حق خلف واذا كان خلف كان ينتحل الشعر على بعض العرب فربما كان ذلك في بداية حياته وكان يقلد القدماء ليحاكي الفاظهم، يقول الصفدي (6) .. "ولم يكن فيه ما يعاب به الا انه كان يعمل القصيدة يسلك فيها ألفاظ العرب القدماء وينحلها أعيان الشعراء" والخليل بن احمد كان معاصرا له فقد توفي خلف عام 180هـ 79م - تقريبا - على حد تعبير الزركلي في الاعلام (7) بالاضافة الى ان ألفاظ القصيدة لا تشابه ألفاظ القدماء فقد عبرت عن الخليل خير تعبير وتساوقت مع اشعاره الاخري في ألفاظها ومعانيها.
اما انتحال خلف للشعر الذي أشار اليه المؤرخون، فربما قد تم لفترة محدودة في مقتبل حياته. اقلع عن ذلك وتنسك وأعلن عن كل شيء انتحله ولنقرأ هذا النص المنقول عن ابي الطيب اللغوي (8) حيث يقول: "كان خلف الاحمر يصنع الشعر وينسبه الى العرب فلا يعرف ثم نسك وكان يختم القرآن كل يوم وليلة، وبذل له بعض الملوك العظماء مالا عظيما على أن يتكلم في بيت شعر شكوا فيه فأبى ذلك وقال: قد مضى لي فيه ما لا أحتاج أن أزيد عليه. وكان قد قرأ أهل الكوفة عليه أشعارهم فكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية، فلما نسك خرج الى أهل الكوفة يعرفهم الاشعار التي أدخلها في أشعار الناس".
ان تنسكه وختمه القرآن كل يوم وليلة ورفضه لعرض بعض الملوك واصراره على اخبار الناس بما انتحله لتوبة صادقة وصارت بعد ذلك حياته أقرب الى الثقة منه الى الانتحال، ولهذا يبقى ما ورد في كتابه "مقدمة في النحو" عن نسبة المنظومة النحوية الى الخليل بن أحمد يقينا لا يرقى اليه شك اذ لو كانت القصيدة ليست للخليل لكان أعلن ذلك للناس أو حذفها من كتابه، لانه كان يشير الى المنحول المسموع فما بالنا بالمكتوب لديه، ولا أظن ان كتابه قد اشتهر وخرج الى الناس في حياته، ولو كان ذلك قد تم لكان قد أعلن انتحال هذه القصيدة أيضا على الخليل، ان الانتحال في رأيي لا يكون في نسبة قصيدة نحوية لصاحبها ولا اظن ان في الامر شيئا آخر غير الحقيقة. في هذه النسبة.