ومن الأمثلة غير ما سبق: "حَقا، أنك متعلمٌ رَفْعٌ لقدرك" - "المعروف أن التعلم نافع". فالمصدر المؤول فى الجملة الأولى مبتدأ، والتقدير: تَعَلمُك رفعٌ لقدرك، أما فى الجملة الثانية فهو خبر، والتقدير: المعروف نَفْعُ التعلم.
ومثله المصدر المؤول بعد: "لولا" حيث يحب فتح همزة "أنّ" نحو: لولا أنك مخلص لقاطعتك. والتقدير: لولا إخلاصك حاصل لقاطعتك.
ومما سبق نعلم أن المصدر المؤول يجئ لإكمال النقص، فيكون فاعلا، أو نائبه، أو مفعولا به، أو مبتدأ، أو خبراً. وقد يكون غير ذلك. كما نفهم المراد من قول النحاة: يجب فتح همزة: "أن" إذا تحتم تقديرها مع معموليها بمصدر يقع فى محل رفع، أو نصب، أو جر.
زيادة وتفصيل:
ا- "أنّ" - مفتوحة الهمزة، مشددة النون - معناها التوكيد - كما شرحنا - وهى مع اسمها وخبرها تؤول بمصدر معمول لعامل محتاج له، فمن الواجب أن يكون الفعل - وغيره مما هى معمولة له - مطابقاً لها فى المعنى؛ بأن يكون من الألفاظ الدالة على العلم واليقين؛ لكيلا قع التعارض والتناقض بينهما (أى: بين ما يدل عليه العامل، وما يدل عليه المعمول) وهذا هو ما جرت عليه الأساليب الفصيحة حيث يتقدمها ما يدل على اليقين والقطع: مثل: اعتقدت، علمت، ووثِقْت، تيقتنت، اعتقادى ... ولا يقع قبلها شئ من ألفاظ الطمع، والإشفاق، والرجاء ... مثل: أردت، اشتهيت، وددْتُ ... وغيرها من الألفاظ التى يجوز أن يوجد ما بعدها أوْ لا يوجد؛ والتى لا يقع بعدها إلا "أنْ" الناصبة للمضارع. وهذه لا تأكيد فيها ولا شبه تأكيد؛ فتقول أرجو أن تحسن إلى الضعيف، وأرغب أن تعاون المحتاج. وكالتى فى الآية الكريمة: {والذي أطمعُ أنْ يغْفِرَ لي خطيئتي يوم الدين}. وما ذكرناه فى "أنّ" المشدّدة يسرى على: "أنّ" المفتوحة الهمزة المخففة من الثقيلة؛ فكلاهما فى الحكم سواء، نحو قوله تعالى {علمَ أنْ سيكونُ منكم مرضى}.
ومن الألفاظ ما لا يدل على اليقين ولا على الطمع والإشفاق ولكن يقع بعده "أنْ" المشددة والمخففة الناسختان كما يقع بعده "أنْ" التى تنصب الفعل المضارع. وذلك النوع من الألفاظ هو ما يدل على الظن؛ مثل: ظننت، وحسبت، وخلْت. ومعنى الظن: أن يتعارض الدليلان، ويرجح أحدهما الآخر.
وقد يقوى الترجيحُ فيستعمل اللفظ بمعنى اليقين؛ نحو قوله تعالى: {الذين يظنون أنهم مُلاقو ربهم}، وقد يضعف حتى يصير مشكوكاً فى وجوده: كأفعال الرجاء والطمع وألفاظهما الأخرى ...
ب- لا تكون "أنّ" (المفتوحة الهمزة. المشدة النون) مستقلة بنفسها مع معموليها: فلا بد أن تطون معهما جزءاً من جملة أخرى ... غير أنه لا يجوز أن يقع المصدر المؤول من: "أن ومعموليها" اسماً لأختها المكسورة الهمزة. فإذا أريد ذلك وجب الفصل بينهما بالخبر، فيتقدم بشرط أن يكون شبه جملة نحو: إن عندى أن التجربة خيرُ مرشد. إن فى الكتب السماوية أن الرسل هداةٌ للناس ... وقد سبق أنه يجوز وقوع "أنّ" مع معموليها اسماً للأحرف الناسخة - ومنها: أن - (أى: أن يكون المصدر المؤول اسماً للحرف الناسخ) بشرط أن يتقدم عليه الخبر شبه الجملة.
حـ - أشرنا - فى ص 181 - إلى بعض مواضع المصدر المؤول من "أنّ ومعموليها". وقد يقع فاعلا لفعل ظاهر كما رأينا أو مقدر؛ نحو: اسمع ما أنَّ الخطيب يخطب. أى: ما ثبت أن الخطيب يخطب، (مدة ثبوت خطبته) وذلك لأن "ما" المصدرية الظرفية لا تدخل - فى أشهر الآراء - على الجملة الاسمية المبدوءة بحرف مصدرى. ومثلها العبارة المأثورة: "لا أكلم الظالم ما أنّ فى السماء نجماً. أى: ما ثبت أن فى السماء نجماً ... ".
ومن الفعل المقدر أيضاً أن يقع ذلك المصدر المؤول بع: "لو" الشرطية؛ نحو: لو أنك حضرت لأكرمتك: فالمصدر المؤول فاعل محذوف، والتقدير: لو ثبت حضورك ... لأن "لو" شرطية لا تدخل إلا على الفعل فى الرأى المشهور. والأخذ به أولى من الرأى القائل: إن المصدر المؤول مبتدأ خبره محذوف وجوباً، أو مبتدأ لا يحتاج إلى خبر. لأن فيهما تكلفاً وبعداً.
وقد يقع ذلك المصدر نائب فاعل، نحو قوله تعالى: {قُلْ أوحِيَ إليّ أنَّهُ اسْتَمَع نَفرٌ منَ الجنّ ... }،وقد يقع خبراً عن مبتدأ الآن، كالأمثلة السالفة، أو بحسب الأصل: نحو: كان عندى أنك مقيم. لكن يشترط فى المبتدأ الذى يقع خبره هذا المصدر المؤول، ثلاثة شروط:
¥