الثاني، وهو الأقرب إليّ، أنكم صرفتم النظر عن تلك الإجابات نظراً لأنها لن تغير شيئاً في مسار الخلاف حول إعراب (ضحيته).
لذلك لن أتطرق إلى ذلك الآن، وذلك حسب طلبكم بأن يتركز التعقيب حول القضية الأخيرة (عدم مجيء الحال معرفة)، إلا أني سأعرج قليلاً على نقطتين قبل أن أتكلم عن مسألة النقاش، وبداية أحب أن أشكرك جزيل الشكر على إتحافي وإتحاف قرّاء هذا البحث بالمراجع التي ورد فيها ذكر الأفعال التي تعمل عمل (صار)، فجزاك الله خير الجزاء.
النقطة الأولى: ذكر الصبان في حاشيته معلقاً على كلام الأشموني حينما قال: (مثل صار في العمل ما وافقها في المعنى من الأفعال)، قال الصبان (على خلاف في ذلك)، فتبيَّن أن هذا الأمر ليس محل اتفاق العلماء، بالإضافة إلى ذلك فإني أرى أن الشواهد التي ساقها القائلون بهذا الرأي محل نظر أيضاً، ولازلت أقول أن الأصل بقاء الأفعال على معانيها التي يدل عليه السياق، دون الحاجة لتحويل معناها للفعل (صار)، ويبقى المعنى صحيحاً لا غبار عليه، كذلك وجدت أن بعض الشواهد الواردة في كتاب الله سبحانه وتعالى لم يقل بها المفسرون، وسأذكر علي سبيل المثال بعضها:
جاء في شرح الأشموني والنحو الوافي ((ارتدَّ بصيراً))، ارتد بمعنى صار: وقد سبق أن ذكرت أن ارتد بمعنى رجع، وبصيراً حال، فلا حاجة لجعل ارتد بمعنى صار.
وجعل الزمخشري قوله تعالى ((فتقعدَ مذموماً مخذولاً)، قعد بمعنى صار،
وجاء في بعض كتب التفسير، (فتقعد)، قيل هو كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات، فالعجز عنه يلزمه أن يكون قاعداً عن الطلب، وقيل: إن من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً مفكراً على ما فرط منه، فالقعود على هذا حقيقة، وانتصاب (مذموماً مخذولاً) على الحال.
وجاء في شرح الأشموني، (لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً، تمثيلاً للفعلين غدا، راح بمعنى صار، وقد تعقَّبه الصبان في حاشيته على أن هذا التمثيل به نظر؛ لأن الظاهر أن الفعلين تامان بمعنى تذهب في الغدوة وترجع في الرواح، أي المساء، فانتصاب ما بعدهما على الحال.
فتبيَّن من سياقي لبعض الشواهد التي يستندون إليها أن معنى السياق يقوم على معنى الفعل الحقيقي، دون الحاجة إلى تأويله لصار , وانتصاب الأسماء على أنها حال.
النقطة الثانية: بالنسبة لكلمة (ضحية)، ذكرتَ – حفظك الله – أن فعلها ورد في بيت حسَّان بن ثابت – رضي الله عنه _
ضحَّوا بأشمط عنوان السجود به ## يُقطِّع الليل تسبيحاً وقرآنا
فإن كنت تريد أنها مصدر، وفعلها (ضَحَّى).
فأقول: أرجو أن تتأكد من هذه المعلومة، حيث إن ضحَّى فعل زائد عن الثلاثي، ومصدره قياسي، على وزن تفعلة،
فيقال: ضحَّى تضحيةً، وزكَّى تزكيةً، وربَّى تربيةً، وهكذا
قال ابن مالك – رحمه الله _
وَغَيْرُ ذِي ثَلاَثَةٍ مَقِيسُ && مَصْدَره كَقُدِّسَ التَّقْدِيسُ
وَزَكِّهِ تَزْكِيَةْ ....
وهذا هو سبب تراجعي عن إعراب (ضحيتَه) مفعولاً لأجله.
والآن يأتي دور القضية الأخيرة التي طلبتم أن يكون التركيز عليها، وهي تعليلكم بوجوب أن تكون الحال نكرة، وقد ذكرتم أمرين أساسيين:
أ ـ أن المعرفة يجب أن تؤول بنكرة
ب ـ أن ما جاء من الحال معرفة يجب أن نقف فيه على المسموع من كلام العرب ولا يجوز القياس عليه.
قبل أن أشرع في الرد على هذا الدليل الذي ذكرتموه، أحب أن أسأل: هل يعتبر الأمر الأول قيداً احترازياً أم قيداً بيانياً؟ وتلازماً مع الأمر الثاني؟
فإن قلتم هو قيد احترازي، أنتقل إلى سؤالي الآخر: فهل ورد عن العرب حال معرفة لا يمكن تأويلها بنكرة؟
وحسب فهمي أن جميع ما ورد عن العرب في هذا الشأن محتجُّ به، وكل ما قالوه تمَّ تأويله بنكرة، سواءً كانت النكرة مشتقة من جذور الكلمة المعرفة، نحو
(أرسلها العراك) تم تأويلها: أرسلها معتركة، أو: أرسلها معاركة.
أو بنكرة مرادفة للمعنى، نحو: (وحدك اجتهد)، اجتهد منفرداً، (كلمتُه فاهُ إلى فِيَّ)، أي: كلَّمتُه مشافهةً أو مشافهين
¥