كذلك إذا كان هذا النص قد قامت حوله شروح لبعض النصوص فيه، أو قامت حوله دراسات نقدية، أو دراسات تلخيصية -مثلًا- لهذا النص، فعلى المحقق أن يرجع إلى هذا كله؛ لأن الرجوع إليها له مردوده الإيجابي الذي يوصل المحقق إلى سلامة النص وجودته، وحل الكلمات أو الرموز المعقدة الموجودة فيه من خلال الرجوع إلى هذه المصادر التي أشرنا إليها.
إذن: في هذه الحالة عندما يرجع إلى هذا كله يكون لديه القدرة - المحقق- على تقديم هذا النص على مائدة التحقيق متنًا، وأسلوبًا، وفكرًا، وصياغة يقدمه للقارئين؛ لأنه استوفى كل الجوانب التي توصله إلى تحقيق وسلامة هذا النص.
المحقق له شروط كثيرة، فليست عملية التحقيق عملية هينة، وليس أي واحد أو أي باحث يستطيع أن يقوم بهذا التحقيق، فهناك كثير من الكتب المحققة موجودة وظهرت الآن في السوق، وما زال كثير من الباحثين يعتنقونها، لكنها في حد ذاتها لم تكن على المنهج العلمي للتحقيق، وإنما هذه الكتب ما هي إلا عبارة عن مجرد نقل النص من مخطوطة أو مخطوطتين له، وترك ما عداه من المخطوطات الأخرى، أصبح الكتاب بدلًا من أن يكون مخطوطًا صار مطبوعا وأصبح يتداول بين الناس فهذا ليسهو التحقيق العلمي.
الشرط السادس من شروط المحقق:
مراعاة المحقق لتخصصه الدقيق أي: أن المحقق إذا كان متخصصًا في مجال اللغة، فعليه أن يختار الكتاب الذي يقوم بتحقيقه أن يكون في صميم تخصصه، لا أن يختار كتابًا مثلًا في الفقه، لا أن يختار كتابًا مثلًا في الحديث أو التفسير، أو غير ذلك، فعليه أن يكون الكتاب الذي يقوم بتحقيقه في مجال تخصصه الدقيق الذي تخصص فيه.
فالذي -مثلًا- يحقق مخطوطة في النحو لا بد أيضًا أن يكون متخصصًا في مجال النحو، فإن لم يكن متخصصًا في النحو فإنه تحقيقه لهذه المخطوطة النحوية لم يكتمل، بل يكون عاجزًا وقاصرًا عن الوصول إلى الوصول الهدف المنشود في ذلك، ربما يتمكن البلاغي من تحقيق نص صرفي، أو ربما يتحقق أو يتمكن الصرفي من تحقيق نص بلاغي، لكن كل منهما لن يصل إلى تحقيق غايته: الصورة الصحيحة والمنشودة لهذا النص.
إذن: العبرة -كما قلت- ليست بطباعة النص كما هو، أو بتهميش ما لا يستحق التهميش من إشارة مثلًا، عندما نجد بعض الكتب المحققة يقول: في أ كذا، وفي ب كذا ... إلى آخره، هذا يعد تهميش، أو عندما نجد في بعض الكتب يأتي في الهامش يضع علامة ترقيم في النص عند كلمة معينة، ويأتي في أسفل الهامش ويقول بأن معنى هذه الكلمة كذا، ليس هذا هو التحقيق العلمي، التحقيق العلمي بحيث أن يقوم المحقق بتقديم الكتاب، وتصحيح النص، وشرحه، وتوضيحه، وإخراج كل ما فيه، بحيث أن القارئ بعد ذلك -عندما يقرأ في هذا الكتاب المحقق- لا يحتاج الرجوع إلى كتاب آخر؛ لتوضيح ما جاء في هذا النص من بيان أو شرح لمعان بعض الكلمات، أو استخراج بعض الأقوال أو الأبيات أو ما شاكل ذلك، وإنما يعد كشكولًا جامعًا لكل ما ورد في هذا النص.
فالتحقيق يكون بمثابة الكشكول المتنوع الذي جمع كل ما احتاج إليه النص المحقق في ذلك؛ لذلك فإن منهج التحقيق منهج أعمق وأكثر شمولًا من عملية التهميش التي قام بها بعض المحققين دون أن يقدموا شيئًا يفيد في خدمة هذا النص، فالذي قدموه لنا هو كتابة النص فقط، بدلًا من أن كان مخطوطًا صار مطبوعًا، لكنهم لم يقدموا أية تعليقات تفيد أو تخدم النص.
إذن: التخصص الدقيق هو مطلوب في التحقيق؛ لأن كل تخصص له أبعاده الفكرية، ومجالاته الثقافية، وله أيضًا خطواته الإجرائية التي يجب على المحقق أن يلتزم بها، وله رجاله، ورواده، وشيوخه، وتلامذته، وله أيضًا مصادره ومراجعه، إلى آخره.
إذن: ليس مجال التحقيق مباح لأي إنسان، وإنما مباح للمتخصصين، وربما يكون متخصصًا لكنه ليس قادرًا على تحمل عناء ومشقة التحقيق، فإذن في هذه الحالة لا يكون مؤهلًا لذلك.
¥