فمن الواضح أن تبييض التاريخ قد تم أثناء فترة السماع هذه، ولنتأمل مجالس السماع الخاصة التي كانت تتم بين المصنّف وابنه في المنزل، سابقة مجالس السماع العام ببضعة أشهر، ألم تلك إيذاناً بالفراغ من التبييض تمهيداً للسماع العام؟.
وما لنا نذهب بعيداً؟ وهذه شهادة من حفيد المصنّف الذي جالس أباه وجده في السماع الخاص والعام، قال16: "فلم يزل والدي يكتب وينقله من الأوراق الصغار والظهور ويهذب، إلى أن نجز منه نحو مائة وخمسين جزءاً. وكان بينهما ثغرة، فكان لا يحضر السماع تلك المدة.
فحكى لي والدي قال: ضاق صدري، فأتيت الوالد ليلة النصف في المنارة الشرقية، وزال ما في قلبه. وسمعت أبا جعفر القرطبي [يقول: سمعت جدك] كثيراً يقول –عند غيبة والدك عنه-: "جزاه الله عني خيرا"، فلولاه ما تم التاريخ.
فقال: إن الحافظ أبا القاسم حلف أنه لا يكلم ابنه حتى يكتب التاريخ، فكتبه".
وكذلك كان القاسم مثلاً طيباً في البر والعلم معاً، أبر قسم أبيه فغدا في شغل شاغل من أمر التبييض، صرفه في بعض الأحيان عن حضور مجالس السماع حتى ضاق صدره، ولقد أثنى عليه أبوه بحق "فلولاه ما تم التاريخ".
ثم تأتي المرحلة الثالثة –مرحلة الإكمال والتجديد- بعد سنة خمس وستين وخمسمائة: وقبل الخوض في هذه المرحلة يجب أن نبادر إلى إبعاد شبهة ربما علقت بالأذهان، من أن نمواً أو تنقيحاً أو تجديداً حدث في التاريخ خلال هذه الفترة، فالحق أنه لم يحدث شيء من ذلك بالمعنى الكامل، وإنما هي ملحقات مستدركة في هوامش الأصل تارة، ومسجلة في جذاذات مقحمة بين الصحف تارة أخرى، تحمل أسطراً بخط مرتعش، إنه خط أبي القاسم وقد شارف السبعين. ثم النسخة المستجدة التي صنعها القاسم، وهذه التي أملت عليّ ذكر التجديد للجناس اللفظي فحسب، فليس هنالك من جديد.
ولنتأمل صورة (الملحق) التالي –إنها ترجمة في أربعة أسطر، لكنها تسجل بدقة تاريخ (الإلحاق) الذي تم بعد سماع التاريخ.
"17محمد بن بركة بن خلف بن كرما، أبو بكر الصلحي. سمع ببغداد أبا طالب بن يوسف. [وآخرين] ثم قدم دمشق وحدّث بها ببعض مسموعاته، وكان مواظباً على السماع مني، وسمع أكثر هذا التاريخ، وكان مولده بفم الصلح [قلت: هي قرية قريبة من واسط في العراق]، ومات ليلة الخميس، ودفن يوم الخميس، الحادي عشر من المحرم سنة ست وستين وخمسمائة، ودفن بمقبرة جبل قاسيون".
وكذلك نستنتج أن ملحقات الأب كانت بين عامي ستة وستين وواحد وسبعين .. ويقع هنا إشكال طريف بشأن السلطان المجاهد صلاح الدين الأيوبي، فكأن أبا القاسم رحمه الله أغفل ترجمته في التاريخ إغفالاً، وانتقده أبو شامة لذلك فقال: "لم يذكر له الحافظ أبو القاسم ترجمة مع أنه ملك دمشق في سنة سبعين"، ويبدو أن أبا القاسم كان أكثر إعجاباً بنور الدين، ولقد عاتب صلاح الدين مرة بحدة، ووصف مجلسه بأنه "18كبعض مجالس السوقة لا يستمع فيه إلى قائل ولا يرد جواب متكلم"، والغريب أن العتاب نفسه أو قريباً منه، قد صدر عن الحافظ السلفي في الإسكندرية بحق السلطان نفسه19. على أن صلة القاسم بصلاح الدين كانت أوثق فيما يبدو، فقد صنع القاسم كتاباً في الجهاد، سمعه منه السلطان صلاح الدين في سنة ست وسبعين. قال القاسم20: "فدعوت في أوله وآخره بفتح بيت المقدس فاستجاب الله ذلك وله الحمد، وفتح بيت المقدس في السادس العشرين من رجب، سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة وأنا حاضر فتحه".
وقد يبرز هنا سؤال وجيه: لماذا لم يُلحق القاسم ترجمة لصلاح الدين؟ والجواب على ذلك يدخلنا في صميم عمل القاسم وطبيعة إلحاقه في التاريخ.
إن صنيع القاسم في التاريخ الكبير مثل أعلى عجيب في التكامل العلمي المتوازن والالتزام الأدبي الأمين. صحيح أنه صنع النسخة الجديدة بتجزئة جديدة، لكنه ما غير ولا بدل، بل لقد التزم في مجالس السماع عليه التجزئة الأولى للكتاب، ليقع التنسيق بين السماع عليه والسماع السابق على أبيه.
كل ما صنع في النسخة الجديدة: أن الجزء الذي كان في عشرين ورقة، نزّله في خمس عشرة ورقة، وأن ملحقات أبيه التي كانت في الهوامش أو منثورة في الجذاذات، أحلها حاق مواضعها من المتون.
أما ملحقاته هو فقد كانت –في معظمها- "وصلاً" بينه وبين مصادر التاريخ الكبير، تؤذن بسماعه تلك الأصول تارة، وتبين طرقه إليها تارة أخرى.
ولذلك نلاحظ في السماعات المتأخرة للتاريخ أمراً طريفاً، وصحيحاً في الوقت نفسه، وهو اعتبار السماع على القاسم بمنزلة السماع على والده المصنف.
وبعد، لكم كان بودي الحديث عن طرائف وحقائق من تاريخ ابن عساكر، طالما كنت ادخرتها لأمثال هذه المناسبات، ولكن الوقت ضيق حرج، وعسى أن ييسر الله لهذا البحث اكتمالاً في كتاب، إنه خير مسؤول، والحمد لله رب العالمين.
1 مقدمة المجلدة الأولى: 48، مقدمة مجلد (عاصم- عايذ):
2 قسم شعراء الشام: 1/ 276.
3 سير النبلاء: 12/ 279أ.
4 مفتاح السعادة: 1/ 216.
5 المقدمة: 32.
6 طبعة بيروت 1960م: مج 3/ 276.
7 ط. 1959م: ص29.
8 الطبعة الفرنسية 1975م: مج 3/ 736.
9 المقدمة: ج.
10 المقدمة: 23.
11 مجلد من (العبادلة): لم يصدر بعد.
12 الروضتين 1/ 144.
13 مجلد (عاصم-عايذ): 522.
14 المجلدة الأولى: 660.
15 سير أعلام النبلاء: مج13 /ل 94.
16 سير أعلام النبلاء: مج 13/ل 94.
17 نسخة ب: مج 18/ 62ب,
18 الروضتين: 1/ 10.
19 مقدمة سؤالات السلفي: ص13.
20 سير أعلام النبلاء: مج13/ل 94.
http://awu-dam.org/trath/01/turath1-004.htm
¥