وكانت العلاقات الثقافية بين دمشق وبغداد قائمة على قدم وساق منذ أقدم العصور، لكنها توطدت بشكل أكبر خلال هذه الفترة، فقد رحل عالم بغداد ومؤرخها الخطيب البغدادي مثلاً إلى دمشق غير مرة ومكث فيها فترة طويلة لم يمكثها في مدينة أخرى سوى بغداد، وكان يعقد مجلسه في الجامع الأموي بدمشق يحدث بمصنفاته ومصنفات غيره رغم سيطرة الفاطميين عليها وعدم ارتياحهم من نشاطه العلمي (11).
وكثيراً ما كان الدماشقة يرحلون إلى بغداد، بل ويستوطنها بعضهم، فالحافظ أبو القاسم ابن السمرقندي ولد بدمشق سنة 454هـ وسمع بها ثم رحل به وبأخيه أبوهما المقرئ أبو بكر أحمد في حدود سنة 469هـ وسكنوها، وأصبح ابن السمرقندي بعد ذلك من أعاظم علماء بغداد في عصره إلى حين وفاته سنة 536هـ (12). وقدم أبو عبد الله الحسين بن الحسن المقدسي الحنفي المقرئ من الشام إلى بغداد وهو في السابعة عشرة من عمره سنة 470هـ فاستوطنها وتفقه بها وولي إمامة مشهد أبي حنيفة بها (13).
وكانت علاقة عائلة الحافظ أبي القاسم ببغداد قوية جداً، فقد رحل إليها جده لأمه القاضي أبو المفضل يحيى بن علي بن عبد العزيز القرشي الأموي (443 - 534هـ) وسمع بها من عبد الله بن طاهر التميمي الفقيه وغيره، وتفقه بها على الفقيه أبي بكر الشاشي، كما أنه مر بها عند ذهابه إلى الحج سنة 510هـ (14).
ورحل إليها خالاه، بل إن خاله زين القضاة أبا المكارم سلطان بن يحيى (ت 530) صلى التراويح بالنظامية، ووعظ بها، وخلع عليه الخليفة هناك (15).
ورحل أخوه الصائن هبة الله بن الحسن (488 - 563) إلى بغداد سنة 510هـ (16)، وحج سنة 511هـ ورجع إليها وبقي فيها حتى سنة 514هـ (17).
وكانت رحلة الحافظ أبي القاسم مع العلم وطلبه قد بدأت منذ طفولته، حيث تلقن القرآن الكريم (18)، وأحضر مجالس السماع، واستجاز له أهله كبار العلماء إبان طفولته، ثم أخذ هو يسمع بنفسه. والظاهر أنه كان يتشوق إلى الرحلة إلى البلدان الأخرى ولاسيما بغداد، لكن أهله كما يبدو لم يمكنوه من ذلك في أول الأمر، فلما بلغ الحادية والعشرين من عمره سمحت له أمه بالسفر إلى بغداد، لكنها اشترطت عليه ألا يرحل إلى مشرق العالم الإسلامي (19). ولم يكن الحافظ ابناً عاقاً يخالف إرادة أمه لاسيما أن آداب طلب العلم تقتضي استئذان الأبوين في الرحلة (20)، ووجوب طاعتهما وبرهما وترك الرحلة مع كراهتهما ذلك وسخطهما (21).
وكان الحافظ –رحمه الله- في أشد الشوق إلى الرحلة إلى بغداد فقد حكى زين الأمناء ابن عساكر لعمر بن الحاجب أن أبا القاسم لما عزم على الرحلة اشترى جملاً وتركه بالخان فلما رحل القفل تجهز وخرج فوجد الجَمّال قد مات، فقال له الجماعة الذين خرجوا لوداعه: ارجع فما هذا فأل مبارك، وفندوا عزمه، فذكر لهم أن مثل هذا لا يثني عزمه، وأنه لابد من الرحلة حتى مشياً على قدميه، ثم حمل خرجه واكترى من الركب بعيراً (22).
ومما لاشك فيه أنه وصل بغداد قبل شهر رجب من سنة 520هـ، وهو الشهر الذي توفيت فيه شيخته البغدادية فاطمة بنت عبد القادر بن السماك، وقد ذكر الذهبي أنها أقدم شيوخه ببغداد وفاة (23). وإذا استثنينا ذهابه إلى الحج سنة 521هـ وسماعه هناك (24) ورجوعه إلى دمشق لفترة (25) فإنه بقي ببغداد حتى سنة 525هـ. ونحن نعلم أيضاً أنه كان بدمشق في شوال سنة 525هـ وهو الشهر الذي توفي فيه شيخه أبو علي الحسن بن سلمان (26) النهرواني مدرس النظامية (27) فقال في كتاب تبيين كذب المفتري: فورد عليّ بعد عودتي من بغداد كتاب الشريف أبي المعمر المبارك بن أحمد بن عبد العزيز الأنصاري فذكر أنه توفي في يوم الاثنين الخامس من شوال سنة خمس وعشرين وخمسمئة (28).
أما الرحلة الثانية إلى بغداد فكانت رحلة قصيرة من ضمن رحلته العامة إلى المشرق التي ابتداها سنة 529 فتوقف ببغداد سنة 533 وسمع على شيوخها أيضاً، وحدّث بها، ثم عاد إلى دمشق ليبدأ نشاطه العظيم في عطاء علمي غزير هادف لم ينقطع طيلة حياته.
ويبدو أن أبا القاسم الدمشقي لم يرحل غير هاتين الرحلتين الكبيرتين، ودلالة ذلك أنه حينما عاد إلى دمشق سنة 533هـ كان يأمل أن تصل بعض نسخ سماعاته من رفيقه أبي علي ابن الوزير، وحينما تأخير وصول النسخ ولم يصل أحد من رفاقه كان يقول: "فلابد من الرحلة ثالثاً" ثم وصلت إليه وفرح بها ولم يرحل (29).
¥