وصل ابن عساكر إلى بغداد وهو في مطلع شبابه: في الحادية والعشرين من عمره وبقي فيها قرابة الخمس سنوات لم ينقطع فيها عن التحصيل والدرس. وهذه الفترة، في رأينا، هي التي أثرت تأثيراً عظيماً في تكوينه الفكري وطبعته بطابع أهل بغداد المحبين للحديث وروايته ودراسته حباً شغلهم عن كثير من العلوم الأخرى. وفي بغداد كانت المشارب التي أخذ عنها أبو القاسم متنوعة التنوع كله، ففي شيوخه أشاعرة وسلفية منهم المرن وفهم المتعصب لعقيدته، وهو لم يترك أحداً استطاع مجالسته والسماع عليه والأخذ عنه، فعلى الرغم من أشعريته التي ورثها عن عائلته، ودفاعه عن الأشاعرة والذب عنهم ما استطاع إلى ذلك سبيلاً (كما يتضح من كتاب التبيين) فإنه ما كان ليحجم عن الأخذ من شيوخ كانوا يعادون الأشاعرة، فقد أخذ مثلاً لا حصراً، عن القاضي أبي الحسين محمد ابن القاضي أبي يعلى محمد ابن الفراء الحنبلي البغدادي المتوفى سنة 526هـ صاحب طبقات الحنابلة البغدادي وقد قال فيه السلفي الحافظ: "كان أبو الحسين متعصباً لمذهبه وكان كثيراً ما يتكلم في الأشاعرة ويقول فيهم وبسمعتهم" (71).
وبسبب اتصال الحافظ أبي القاسم بشيوخ من مشارب مذهبية وعقادية متنوعة وحبه واحترامه لهم، وجدناه ينشأ على غاية من النزاهة عن التعصب الذي عرف به كثير من الأشاعرة وخصومهم. ولم يكن تحقيق تلك النزاهة والمرونة في تلك الأعصر من الأمور الهينة والبيئة الدمشقية والبغدادية آنذاك مشحونة بها.
وعلى الرغم من أشعرية الحافظ ابن عساكر فقد اتصل اتصالاً هائلاً بالحديث والمحدثين يذكرنا باتصال الحنابلة به، فقد أفنى عمره في سماع الحديث وروايته، وألف معظم كتبه في هذا المجال الذي أخذ بجماع نفسه.
وتتصل قيمة التاريخ عند الحافظ ابن عساكر اتصالاً وثيقاً بالحديث. وهو أمر يعكس مفهومه وفلسفته في الدراسة والعطاء، فالتاريخ عنده ليس أكثر من معين لمعرفة صحيح الحديث من سقيمه في أغلب الأحيان، لذلك وجدناه يعنى بالتراحم عناية فائقة ويؤثر المحدثين من المترجمين على من سواهم في كتبه ولاسيما في تاريخه العظيم لمدينة دمشق.
وقد استعمل الحافظ مناهج البحث عند المحدثين في عرض الروايات التاريخية، فاستعمل الأسناد بشكل كبير في كتبه ولاسيما تاريخ دمشق. وبعد استعمال الأسانيد عند أهل الحديث من أدق طرق ذكر المصادر، فبقدر ما نعجب اليوم بالحواشي المرصوصة في البحوث الحديثة، كانت الأسانيد عند أسلافنا هي هذه الحواشي المرصوصة بل أكثر دقة والتزاماً.
كما يتضح أثر الحديث في صياغته للترجمة ونوعية المادة التي يوردها فيها: من اسم، ونسبة، ومولد، ووفاة، وشيوخ، وتلاميذ، وتقويم وأحكام، وهو الإطار الذي وضعه المحدثون، وهو أحدهم، لعناصر الترجمة التي انتقلته منهم إلى غيرهم من المعنيين بالتراجم (72).
ويذكر ابن خلكان أن ابن عساكر ألفّ تاريخه لدمشق على نسق تاريخ بغداد للخطيب. ومع أننا لا نريد أن نعقد مقارنة بين الكتابين لنرى مصداق هذا القول، كما لا نريد الدخول في البحث عن أول من ألف تاريخاً تراجمياً لمدينة على نسق الخطيب ممن سبقه لكن علينا ملاحظة جملة أمور من أبرزها:
1 - أن ابن عساكر سافر إلى بغداد وهو في الحادية والعشرين من عمره ولم يكن قد بدأ بجمع مادة تاريخ دمشق جمعاً منظماً يهدف إلى تأليف كتاب عن مدينته.
إن كتاب الخطيب كان كتاباً مرموقاً عند المحدثين والمعنيين بالرواية، فعلى الرغم من ضخامته كان يروى في المجالس ويسمعه الطلبة على الشيوخ، وقد رأينا بعض ذلك عن كلامنا على شيوخ ابن عساكر البارزين من أهل بغداد واهتمامهم بهذا الكتاب.
3 - إن الهيكل العام للكتابين متشابه فهو يبدأ بمقدمة خططية ويتناول بعد ذلك تراجم أهل المدينة ومن وردها من أعلام الناس أو حل بها.
4 - ألف ابن عساكر تاريخه بعد الخطيب ولا ريب أنه استفاد بعض طريقته في التنظيم وحسّتها بما يتلاءم وتكوينه الفكري وذوقه التاريخي المتصل بالحديث والمحدّثين.
¥