من كل ذلك نستطيع القول أن شهرة تاريخ الخطيب ومكانته ودخوله في الكتب المروية قد شجعت الحافظ ابن عساكر على القيام بمشروعه العظيم لتاريخ مدينة دمشق في الأقل، ولابد أنه أفاد من طريقته سواء أكان ذلك في اتباع بعضها أم في تجنب البعض الآخر أو تحسينه. ولا يشك باحث بأن غزارة مادة ابن عساكر في تاريخ دمشق أعظم من تلك التي في تاريخ بغداد للخطيب ولاسيما في الخطط وسعة التراجم.
العطاء:
حينما قدم ابن عساكر إلى بغداد أعجب به البغداديون وقالوا: قدم علينا من دمشق ثلاثة ما رأينا مثلهم: الشيخ يوسف الدمشقي، والصائن أبو الحسين هبة الله بن الحسن، وأخوه أبو القاسم (73). وقد بدأ عطاؤه ببغداد قبل دمشق، ففي رحلته الأولى خرج لشيخه أبي غالب أحمد بن الحسين بن أحمد ابن البناء البغدادي الحنبلي "445 - 527" مشيخه (74) ذكر ابن الدبيثي أنها في نحو عشرة أجزاء تكلم على أحاديثها وأحسن (75). وسمع منه مفيد بغداد أبو بكر المبارك ابن كامل بن أبي غالب الخفاف البغدادي الظفري (490 - 543) وهو أسن منه (76)، قال ابن الجوزي "انتهت إليه معرفة المشايخ ومقدار ما سمعوا والإجازات لكثرة دربته في ذلك (77) ". وتوفي المبارك بن كامل الخفاف قبل أبي محمد مكي بن المسلم بن علان آخر الرواة عن الحافظ بن عساكر بمئة وتسع سنين، فقد كانت وفاة ابن علان في سنة 652هـ (87).
ونظراً للمكانة المرموقة التي احتلها ابن عساكر ببغداد فإنه كان يسأل عن الرواة من حيث الجرح والتعديل فتؤخذ أقواله فيهم وتعتبر عندهم أقصى حدود الاعتبار (79).
فقد أقام الحافظ ابن عساكر بعد رجوعه إلى دمشق علاقات وطيدة مع جملة من علماء بغداد، فبقي تبادل المعلومات العلمية بينهم قائماً (80)، وكان يحرص على لقاء البغداديين القادمين إلى دمشق (81) فيسمع عليهم ويذاكرهم أو يسمعون عليه ويذاكرونه.
وها نحن أولاء نرى كيف آمن أسلافنا العظماء بالوحدة بين أرجاء الوطن العربي وطبقوها تطبيقاً علمياً، وعمقوها في لقاءاتهم المستمرة. وإننا على يقين من أن مثل هذه الأمور تقدم لنا مثلاً رائعاً في الإيمان بحتمية اللقاء والتوحد، لاسيما والأمة تمر بظروف عصيبة يشعر أبناؤها بأنهم محاويج دائماً إلى وحدة متينة تجمع شملهم بعد طول تفرق، وتلم شعثهم بعد التمزق الذي كابدوه طيلة عصور التخلف والظلام، فتزيد في قوتهم اليوم قوة متجددة.
ملحق
ترجمة الحافظ ابن عساكر
في كتب المؤرخين البغداديين غير المنشورة
يتضمن هذا الملحق ثلاث من التراجم غير المنشورة التي وضعها مؤرخون بغداديون للحافظ أبي القاسم ابن عساكر وهم:
1 - الحافظ معين الدين أبو بكر محمد بن عبد الغني البغدادي الحنبلي المعروف بابن نقطة المتوفى سنة 592هـ حيث ترجم له في كتابه "التقييد لمعرفة رواة السنين والمسانيد". وقد اعتمدت نسختي المصورة عن النسخة المحفوظة في المكتبة الأزهرية تحت رقم 137 مصطلح الحديث.
2 - الحافظ جمال الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد المعروف بابن الدبيثي المتوفى سنة 637هـ في تاريخه الذي ذيّل به على ذيل ابن السمعاني على تاريخ الخطيب وهو المعروف بـ "ذيل تاريخ مدينة السلام بغداد". وتقع ترجمة الحافظ بن عساكر في المجلد المحفوظ بمكتبة جامعة كمبرج في إنكلترا. وقد حققت هذا الكتاب وتبنت وزارة الثقافة والفنون في العراق طبعه بنفقاتها فظهر منه المجلد الأول سنة 1974 وترجمة ابن عساكر من هذا التاريخ لم تنشر حتى الآن.
3 - الحافظ محب الدين أبو عبد الله محمد بن محمود المعروف بابن النجار البغدادي، شيخ دار الحديث بالمدرسة المستنصرية المتوفى سنة 634هـ في تاريخه الذي ذيّل به تاريخ الخطيب البغدادي والمعروف بـ "التاريخ المجدد لمدينة السلام وأخبار فضلائها الأعلام ومن وردها من علماء الأنام"، وهو تاريخ حافل يقع في ثلاث مئة جزء حديثي، لكن الزمان قد أتى على معظمه فلم يصل إلينا منه غير مجلدين: المجلد العاشر في دار الكتب الظاهرية بدمشق (رقم 42 تاريخ) والحادي عشر في دار الكتب الوطنية بباريس (رقم 2131 عربي)، وهما من أصل نسخة أظنها تتكون من خمسة عشر مجلداً، وفي خزانة كتبي نسختان مصورتان لهذين المجلدين. والمفروض أن تقع ترجمة الحافظ بن عساكر في المجلد الذي بالظاهرية الذي يبدأ في أثناء من اسمه "عبد الملك" ولسوء الحظ فإن نسخة الظاهرية فيها خرم عند هذه الترجمة فأذهب بمعظمها ولم
¥