يقول المعافى (17) معلقاً على حديث رسول الله r: " أي الخلق أعجب إيماناً": "قال القاضي فالحمد لله الذي هدانا لدينه والإيمان بنبيه، وتصديقنا بكتابه ووحيه ووفقنا لموالاة من تقدمنا من السابقين الأولين وتابعيهم بإحسان من السلف الصالحين وبصرنا فضل أئمتنا الخلفاء الراشدين المهديين الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم". من هذا المقطع يتضح لنا أن المعافى كان على سنة السلف الصالح وهديهم ينكر على من عاداهم ولا يتعصب لبعضهم على بعض.
ويلاحظ كل قارئ لأخبار الكتاب وتعقيبات المعافى عليها أن المؤلف كان يتبع منهجاً موضوعياً، ولكنه لا يستطيع أن يتخلى عن نزعة هاشمية تبدو واضحة في كثير من أخبار الكتاب، ففي أكثر من موضع نسمع ثناءه على بني هاشم وتعريضه السافر ببني أمية، بل إنه يصل إلى اعتبار فضائل بني هاشم وعيوب بني أمية من الأمور البديهية يقول (18) "ولو شرعنا في استقصاء هذا الباب –يريد بذلك باب تعداد مزايا بني هاشم الحميدة وفضائلهم- وأحصينا ما يوجد فيه من مناقب- الهاشميين ومعايب الأمويين لأصبحنا إلى إنشاء كتاب فضلاً عن الاقتصار على باب" ومن المؤسف حقاً أن خرماً في الكتاب حال بيننا وبين معرفة الأخبار التي كان يرويها عهد بني هاشم وبني أمية، ولكن الأخبار المتفرقة في المجلدة التي بين يدي وما رواه ابن عساكر من أخبار نقلاً عن أقسام الكتاب التي ليست بين يدي تدلنا بوضوح على قناعة الرجل التامة بما يقول وتبين ذلك الهوى الهاشمي الذي لم يستطع إخفاءه.
يروي المعافى (19) أن عبد الملك بن مروان طلب من الشعبي أن ينشده أحكم ما قالت العرب فينشده مجموعة من الأبيات يقول عبد الملك بعد سماعها: "حججتك يا شعبي" يقول طفيل الغنوي:
ولا أخالس حاري في جليلته
ولا ابن عمي غالتني إذاً غول
حتى يقال إذا وليت في جدث
أين ابن عوف أبو قرّان مجعون
قال القاضي أبو الفرج: بيتا طفيل اللذين أنشدهما عبد الملك وفضلهما وزعم أنه حج الشعبي، من أشعار الشعراء غير مقصر عنهما، ومن تأمل ما وصفنا وجده على ما ذكرنا من غير أن يحتاج إلى تكلف تفسير ذلك وأطناب الاحتجاج له". وسامع قول المعافى هذا لا يسعه إلا أن يقول: إن الحق معه فقول طفيل لا يمكن أن يقف لأقوال أولئك الشعراء الذين استشهد بهم الشعبي، ولكنه حين يتأمل عبارة المعافى وقوله عن عبد الملك: "وزعم أنه حج الشعبي"، يلاحظ شيئاً من التحامل على الخليفة الأموي. هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن هذا الخبر نقله ابن عساكر عن غير المعافى، ولم نجد بين من روى الخبر أحداً عاب ذوق عبد الملك أو سفه حكمه، وأين موقف المعافى هذا من موقفه من المأمون مثلاً (20) والإشادة بكل ما يصدر عنه من قول أو فعل، ومن قوله في الرشيد معلقاً على استحسانه لهذه الأبيات لأبي عبد الله بن مصعب الزبيري (21):
وإني وإن قصرت من غير بغضةٍ
مراعٍ لأسباب المودة حافظ
وانتظر العتبى وأغضي على القذى
الاين طوراً أمره وأغالظ
وانتظر الإقبال بالود منكم
وأصبر حتى أوجعتني المغائظ
وجربت ما يسلي المحب على الهوى
وأقصرت والتجريب للمرء وأعظ
قال القاضي رحمه الله: " ولعمري إن هذه الأبيات لمن مستحسن الشعر في معناها، وإعجاب الرشيد بها مما يثني على خلوص أدبه وصفاء قريحته". لقد حدثنا المعافى بأن هذه الأبيات جيدة المعنى ولكنه لم يعلق على المبنى لأن ذلك التعليق سيكون صادقاً، وسيضعف من ثنائه على الرشيد وحسن انتقائه، وليت شعري لو كان المستحسن لهذه الأبيات عبد الملك فماذا سيقول وقتها المعافى؟:
والجدير بالذكر أن المعافى قد أحسن انتقاء الأخبار التاريخية والنوادر الأدبية التي فضلت بني هاشم في الشرف والشجاعة، ولعل من أفضل هذه الأخبار ما نقله ابن عساكر في تاريخه عن المعافى (22) في أخبار عبد الملك بن جعفر مما لا نعثر له على ذكر في الكتب الأدبية المعروفة ولا أريد أن أقتبس بعض هذه القصة خشية أن أفقدها روعة العرض الذي قدمها به المعافى وأنى لي في هذه الأسطر أن آتي على تلك الجولات التاريخية واللغوية التي جالها وهو يفسر الألفاظ ويستحضر في تفسيره لها الأمثلة والشواهد.
¥