وفي الحق فإن ما وصل إلينا كان تراثاً ضخماً –وما ضاع كان أضخم- ولا سيما حين تتهيأ الظروف المناسبة لطبع المخطوطات كلها، أو الثمين منها على الأقل. وتتجه أنظار القطر العربي السوري اليوم إلى إحياء تراثنا العلمي بطبع المخطوطات في تاريخ الطب، والهندسة، والبيطرة، والزراعة ... وعلى هذا يدأب معهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب، لأنها تؤكد على مكانة العرب العلمية في مرحلة ترأسوا فيها عملية الإبداع في العلوم.
ونقف أمام من يشتغلون بالمخطوطات وقفة إجلال وتقدير، لأنهم وقفوا أحلى ساعات حياتهم على العيش في رِداهِ المكتبات وبين أروقتها ينبشون كنوز العرب، ويقدمونها للأجيال تنهل منها ما طاب لها، وكأنهم جنود صامتون صامدون، متربصون خلف متاريسهم وداخل خنادقهم.
والعمل بالمخطوطات فن من فنون الأدب الحديثة، مما لم يكن معروفاً قبلاً.
وقد اتجهت الأنظار إليه منذ وجدت المطبعة، ومنذ أخذ المستشرقون بطبع تراثنا العربي ... فلهم الفضل في السبق، وعلينا واجب المتابعة والنبش والإحياء.
ولما كان الحديث عن هذا الموضوع جديداً، ولما كان فناً حديثاً فقد وجبت الإشارة إلى بعض النقاط المهمة، التي من شأنها أن تعين القارئ على الانخراط في هذا الميدان، أو تقدير المشتغلين حق قدرهم. وككل فن، لم يكن له حتى اليوم قواعد مرسومة، ولا شروط مقننة معلومة. لأن المشتغل بالمخطوط يفترض أن يكون في مستوى علمي راق، وتجربة في حقل التأليف مشكورة. ومع ذلك فقد أخذت بعض الدراسات تشرئب أعناقها، وتثبت جدراتها أمثال دراسة جدية للدكتور عبد السلام هارون، ودراسة مثيلتها للدكتور صلاح الدين المنجد من البلاد العربية. ولكن هاتين الدراستين موجزتان جداً، على أهميتهما، ولا يتعدى ما فيهما نتائج تجاربهما الشخصية العميقة.
وإن الذي جرى عليه المستشرقون قبلنا، وكبار المحققين من العرب ومن المسلمين يكاد يتشابه في أفضل النقاط وأهم الركائز. وهذا يثبت أن المشتغلين في هذا المضمار بلغوا مرحلة من النضج الفكري، تجعلهم يتشابهون مع غيرهم من أندادهم المستشرقين.
حتى الطلاب الذين تعتمد رسائلهم الجامعية العليا على دراسة مخطوطة معينة، يخرجون بها إلى النور، وكأنها جارية على القوانين المنهجية المتبعة، لأن أساتذتهم، الذين استقوا من منابع متشابهة –مشرقية أو مستشرقية- دربوهم، وأمسكوا بأقلامهم وأيديهم، وهدوهم سواء السبيل.
المشرفون على المخطوطات:
يعد الموظف المشرف على المخطوطات صلة الوصل بين الخزائن والمحقق.
ولهذا يفترض به أن يكون على بينة تامة من عمله، وأن يتحلى بصفات تؤهله لأداء رسالته خير أداء. من ذلك:
1 - أن يكون ذا إطلاع كبير على أمات الكتب والمراجع والمعاجم.
2 - أن يجري دورة علمية كاملة، تؤهله لشرف الحفاظ على كنز أمته، كأن يتقن أمور التصنيف والتبويب، وأن يلم بأمور التحميض والتصوير والتظهير، وأن يجيد عملية ترميم المخطوطات وطرق المحافظة عليها.
3 - أن يلم بإحدى اللغات الأجنبية على الأغلب. ويفضل أن يتعلم الفارسية إن كان عربياً، وأن يتعلم العربية إن كان فارسياً، وأن يتعلما –العربي والفارسي على السواء- التركية. لأن كثيراً من المخطوطات العربية تتضمن كتباً من الفارسية ومن التركية، ولأن كثيراً من المخطوطات الفارسية تغزر فيها اللغة العربية، وأحياناً التركية. ولا تكاد تخلو خزانة من الخزانات العربية من بعض الكتب أو الدواوين أو الكناشات الفارسية أو التركية. وأمر معرفة الفارسية ضروري كذلك للباحث المحقق ولطالب الدراسات العليا الذي يتابع بحوثه عن طريق المخطوطات.
4 - أن يتصف بالصبر، والدقة، والأمانة، والتعشق للعمل الذي أوكل إليه.
عمل المحقق:
كان على الأديب قديماً أن يتعرف إلى نوعية الورق، وحرفة الوراقة، ومستوى الناسخين وصناعة المداد والقلم، ومثل هذه المعلومات يمكن الإطلاع عليها في كتب الموسوعات التي ألفت في عصر المماليك، مثل كتاب "صبح الأعشى" للقلقشندي، و "نهاية الأرب" للنويري.
¥