[بين الإمام ابن حزم وجارية!]
ـ[أبو ذؤيب الهذلي]ــــــــ[09 - 08 - 2007, 01:46 ص]ـ
قال الإمام ابن حزم:
ألفْتُ في أيام صباي ألفة المحبة جاريةً نشأتْ في دارنا، وكانت في ذلك الوقت بنت ستة عشر عاما. وكانت غاية في حسن وجهها وعقلها وعفافها وخفرها ودماثتها، عديمة الهزل، منيعة البذل، قليلة الكلام، مغضوضة البصر، دائمة القطوب، حلوة الإعراض، مليحة الصدود، كثيرة الوقار، لا تُوَجَّه الأراجي نحوها، ولا تقف المطامع عليها. فوجهها جالبٌ كل القلوب، وحالها طاردٌ من أَمَّها. تزدان في المنع والبخل ما لا يزدان غيرها بالسماحة والبذل.
وكانت تحسن العود إحسانًا جيدًا، فجنحت إليها وأحببتُها حبًا مفرطًا. وسعيتُ عامين أو نحوهما أن تجيبني بكلمة وأسمع من فيها لفظة غير ما يقع في الحديث الظاهر إلى كل سامع، فما وصلتُ من ذلك إلى شيء البتة. وأذكر حفلا كان في دارنا تَجَمَّعَت فيه نساء كثيرات، ثم انتقلن إلى مكان في الدار يُشرف على بستاننا وعلى جميع قرطبة وبيوتها. وأذكر أني كنت أقصد نحو الباب الذي هي عنده، أنسًا بقُربها، متعرّضًا للدنو منها، فما هي إلا أن تراني في جوارها فتترك ذلك الباب وتقصد غيره في لطف الحركة. فأتعمد أنا القصد إلى الباب الذي صارت إليه، فتعود إلى مثل ذلك الفعل من الانتقال إلى غيره. وكانت قد علمت كلفي بها، ولم يشعر سائر النسوان بما كنا فيه، لأنهن كن عددًا كثيرًا. ثم نزلن إلى البستان. فرغب عجائزنا وكرائمنا إلى سيدتها في سماع غنائها. فَأمَرتْها، فأخذت العود وسوّته بخفر وخجل لا عهد لي بمثله، وإن الشيء يتضاعف حسنُه في عين مستحسنه.
ثم اندفعت تغني بأبيات العباس بن الأحنف حيث يقول:
ليست من الأنس إلا في مناسبة **ولا من الجن إلا في التصاوير
فالوجه جوهرة، والجسم عبهرة** والريح عنبره، والكل من نور
فلعمري لكأن المضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيت ذلك اليوم ولا أنساه إلا يوم مفارقتي الدنيا.
وهذا أكثر ما وصلتُ إليه من التمكن من رؤيتها وسماع كلامها. ثم انتقل أبي رحمه الله من دارنا بالجانب الشرقي من قرطبة، إلى دارنا القديمة في الجانب الغربي منها. وانتقلتُ أنا بانتقاله، ولم تنتقل هي بانتقالنا لأمور أوجبت ذلك. ثم شُغلنا بعد قيام أمير المؤمنين هشام بالنكبات وباعتداء أرباب دولته، وامتُحِنّا بالاعتقال والمراقبة والغرامات الفادحة و الاستتار. وتوفى أبي الوزير رحمه الله واتّصلت بنا تلك الحال بعده، إلى أن كانت عندنا جنازة لبعض أهلنا فرأيتها. رأيتها في المأتم وسط نساء في جملة البواكي والنوادب، فأثارت وجدا دفينًا وحرّكتْ ساكنًا، وذكّرتني عهدًا قديمًا وحبًا تليدًا ودهرًا ماضيًا، فجدّدت أحزاني.
ثم ضرب الدهر ضرباته، وأُجلينا عن منازلنا، وتغلّب علينا جند البربر، فخرجت من قرطبة، وغابت عن بصري بعد تلك الرؤية الواحدة ستة أعوام. ثم دخلتُ قرطبة في شوال سنة تسع وأربعمائة، فنزلتُ على بعض نسائنا، فرأيتها هنالك، ولم أميّزها حتى قيل لي هذه فلانة. فإذا هي وقد تغيرت محاسنها، وذهبت نضارتها، وفنيت تلك البهجة، وخاض الماء الذي كان يُرى كالسيف الصقيل، ولم يبق إلا البعض المُميز من الكل، وذلك لقلة اعتنائها بنفسها، وافتقادها الصيانة التي كانت غذّيت بها أيام دولتنا وامتداد ظلنا، واضطرارها إلى الخروج فيما لا بدّ لها منه مما كانت تُصان عنه قبل ذلك.
وإنما النساء رياحين متى لم تتعاهد نقصت، وبناءً متى لم يُصن تهدّم. ولو أني كنت قد نلتُ منها أقلّ وصل، أو كانت أنست لي بعض الأنس لطربتُ وفرحتُ لرؤيتها. غير أن ذلك الصد منها هو الذي صبّرني وأسلاني. وهذا الوجه من أسباب السلو صاحبه معذور وغير ملوم، إذا لم تنشأ علاقة توجب الوفاء، ولا وقع عهد يقتضي المحافظة ويُلام المرء على تضييعه ونسيانه.
"طوق الحمامة"
ـ[ابو الفوارس]ــــــــ[09 - 08 - 2007, 02:41 ص]ـ
بارك الله فيك أخي أبو ذؤيب
ـ[أبو ذؤيب الهذلي]ــــــــ[09 - 08 - 2007, 10:18 ص]ـ
وفيك بارك الله يا أبا الفوارس
ـ[أحمد الغنام]ــــــــ[09 - 08 - 2007, 10:31 ص]ـ
جزاك الله خيراً أخي أبو ذؤيب على هذا النقل الجميل،وكما نلاحظ العفاف واثره على الناس فهذ ابن حزم الامام ... ولو أنه انصاع وراء الدنيا لما سمعنا به والله أعلم ...
ـ[الأحيمر السعدي]ــــــــ[14 - 08 - 2007, 01:53 ص]ـ
قال الإمام ابن حزم:
ثم اندفعت تغني بأبيات العباس بن الأحنف حيث يقول:
ليست من الأنس إلا في مناسبة **ولا من الجن إلا في التصاوير
فالوجه جوهرة، والجسم عبهرة** والريح عنبره، والكل من نور
فلعمري لكأن المضراب إنما يقع على قلبي، وما نسيت ذلك اليوم ولا أنساه إلا يوم مفارقتي الدنيا.
. [/ COLOR]
" طوق الحمامة"
مهِ أيها الفتى؛ رفقاً بشيخوختنا
ـ[أبو ذؤيب الهذلي]ــــــــ[14 - 08 - 2007, 06:19 ص]ـ
مهٍ أيها الفتى؛ رفقاً بشيخوختنا
بل الأولى أن نَرْفِقَ بأنفسنا .. يا شيخنا .. إنما يُرفَقُ بمن لم يذق .. لا بمن ذاق: p
أسعدني مرورك .. بارك الله فيك.